الخميس، 26 فبراير 2015

محكمة الرحمة



تُحيط المحكمة الأسلاك الشائكة الضخمة المُحصنة برجال الأمن أصحاب الأسلحة المتطورة، ترسو فى الهواء الحر الذى يلمس عبودية من يتكوّمون خلف الأسلاك منتظرين بداية الحدث!. نساء تسحب أولادها ورائها كمن يجر خيبة مؤجلة، ورجال يتجادلون كطقس جماعي لتبادل العزاء في حياة خاوية، أطفال يجرون وراء بعضهم صاخبين، فرحين بقدرتهم على إثارة الرعب من فوضى كامنة، فتيات جميلات تُسر الناظرين، وأقل مما يلزم لمحاربة القبح. الملابس مهرتلة، والأعين صامتة.
يتقدم القضاة الثلاثة للمنصة إستجابةً لصوت البوق، وصفير الرياح الأعلى صوتاً، ليبدأ تلاوة النص الحاكم "الفجر ليل جديد.. الصمت صوت القبور.. الخوف ظل السائرين.. الرحمه صدى الصراخ.. من يُرد الصراخ، فهنا كهفه.. المحكمة لا تؤمن بالحدود، الله أعلانا، والقبور أسفلنا". ثم ينادى على من فى القفص الحديدى، ثلاثة رجال، بميكروفون فى سماعة أذنيه، ليتمثلوا أمامه وسط الساحة واحداً تلو الآخر، كنقظة ارتكاز فى دائرة ملحمية يدور حولها الموت فى وسامة استقراطية صامتة !.

الرجل الأول: رجل قصير فى منتصف الأربعينات من العمر، أصلع جزئياً، نظارته عملاقة، يرتدى ما أطلق عليه "الشرز".. يقول القاضى..
-إسمك عبداللطيف السيد عثمان؟.
-يغير نظرتة من الأرض إلى القاضى ليقول: صحيح سيادتك.
-تمام.. ليه طلبت تكون فى المحكمة؟
- فى سكون عكس حركة عينيه كالبندول، يقول: نفسى مش قابلة تكون فى مكان غير فى حضن الموت.. حبيته !.
-سأل القاضى باندهاش: حبيت الموت ؟! ازاى ؟!.
-نطفة من ابتسامة رُسمت على جبينه، مع بداية الاستجابة الحركية لحديثه وهو يقول: آه حبيته! كان أقرب حاجة ليا.. زى الصديق، دايماً جنبى.. كان جنبى لما كنت ضايع فى شبابى، وبتغذى على أوكسوجين مستحقهوش..دخلت المستشفى نتيجة إدمان الهيروين وكنت هموت فيها لولا ستر ربنا!.. ودى كانت أجمل لحظات حبيت فيها الموت!.. بعد ما اتعالجت، رحت مستشفى نفسية، فيها اتعرفت على "نادية"، أجمل واحدة فى حياتى! واللى بقت مراتى بعد كده. حبيتها، أو عبدتها!.. لكن صديقى -الموت- خدها منى نتيجة جرعة زايدة من الهيروين!.. مكنتش عارف ساعتها أعيط ولا أعمل ايه!.. الصدمات شلل المشاعر!.. ومع ذلك حبها منقصش جوايا أبداً!.. لكن صاحبى أنقذ أى طفل يجيلى من انه يتربى على ايد مدمنة!.. كان الموت صاحبى برضو لما خد منى أغلى إنسان! أبويا! وشوش لى الموت وقالى "خدت منك الغالى عشان تاخد بالك من الأغلى"!.. مسبتش أمى من بعد فراق أبويا، كنت خدام ليها ومبسوط، لكن هى كانت بتحب أبويا أكتر. محدش بيعيش لوحده، الوحده مش ان ميكونش معاك حد، الوحده إنك كمان متكونش مع نفسك!.. مقدرش أقول انى كنت عايش فى وحده، لكن مع نفسى! بتعوضلى حاجات كتير فقدتها، بضحك وبعيط وببتسم وبصرخ معاها، لكن الحاجة الوحيدة اللى معرفتش نفسى تعوضهالى، هى الحضن!.. الحضن اللى كان من أمى، أبويا، أو مراتى!.. وهما دلوقت فى حضن الموت!.. عشان كده مليش مكان غير فى حضن الموت.. اللى حبيته.

الرجل الثانى: رجل فى أواخر الخمسينات، يتخلل شعره بعض الشعيرات البيضاء، وجهه طمسته التجاعيد، ويرتدى قميصاً كلاسيكياً وبنطلون قد سقاه الترزى مُراً. القاضى منادياً..
-إسمك عامر أحمد عبد الله؟.
-وهو فى منتصف الساحة ينظر حوله على من خلف الأسلاك الشائكة الذين ينتظرون الحياه خلف السماء، ثم يرد: أيوة يا فندم.
-تمام.. ليه طلبت تكون فى المحكمة؟
-أخذ نفساً يدل على قلقه وهو ينظر للقاضى، ويقول: عشان قلت "اللى بيحب الوطن، يبقى جزمة" !.
-القاضى متعجباً: وايه اللى خلاهم جزم! دوول شرفاء!. وعايز تموت ليه؟!
-أخذ نفساً عميقاً و نبرة صوته تضفى غضباً ساكناً فى نفسه، ليقول: هقول لسعادتك.. الجزمة دى هى اللى بروح بيها المصنع كل يوم عشان تعمل حاجة الحكومة بتقول عليها الانتاج.. الجزمة دى هى اللى ضربت بيها و وقعتها على أدمغة ولادى عشان يتربوا، و طلعت مهندس زى مصطفى ودكتور زى أحمد.. الجزمة دى هى اللى حطيتها فى بوقى ومشيت جنب الحيط عشان الإستقرار.. الجزمة دى هى اللى شالتنى عشان متحوجش للمستشفيات العامة.. الجزمة دى هى اللى لا علاوات ولا مكافئات عرفت تجددها، الخياط هو اللى كان بيحيها وتعيش معايا صيف وشتا.. الجزمة دى هى اللى خلتنى راجل قدام نفسى وقدام عيلتى.. من غيرها كنت همشى عريان!.. الجزمة دى هى اللى كل يوم بتفكرنى بحالى.. شايلة همومى.. مبقاش فيها خرم متخيطش.. ولا كعب تتسند عليه!.. و فى وطنى سعادتك شايف الجزمة دى "مشاوراً تجاهها".. هى نفسى !. حضرتك متخيل راجل فى جسمه تمن تسع سكاكين !؟ حضرتك ُمتخيل انه يقتل نفسه و لا يخلع سكينة سكينة؟!.

 الرجل الثالث: شاب فى أواخر العشرينات، ملامحة جادة وصارمة كالصخر، ويرسم نوع من الخوف بفرع طوله، و نحافته الشديدة.
-اسمك عمر حسن المرشدى؟.
-بنظرة ثابتة: أيوه.
-طلبت ليه تكون فى المحكمة؟.
-بايد نصف مرتعشة وعين زائغة: بسابق الموت، وهنا آخر محطة.
"لم يُعلق القاضى كأنه سلّم أن اليوم هو اليوم الأعجب"
-بدأ عليه استجماع أفكاره كى يبوح بها دفعةً واحدة: أنا ابن حسن المرشدى رجل الأعمال، عايش لوحدى بعد مع أهلى ماتوا.. دُقت لذّة كل حاجة فى الحياة ممكن تتخيلها، مخدرات، و دعارة للجنسين، سفر فى كل بلاد العالم، حتى الغابات روحتها، أكل، شرب، كل حاجة!.. لكن لذة تانية عبقرية لما شفت واحد بيموت بخبطة عربية!.. لحظة طلوع الروح وكأنه بيحضّر الموت وبيتكلم معاه بعينيه الواسعة!.. بصيتله وعرفت إجابة "الروح فين؟".. الروح فى إيد الموت!.. عايز تشوفها وتحسها، اتفرج على واحد بيتألم فى الموت!.  لذة أحلى من كل البنات اللى نمت معاهم!.  قتلت، ودبحت ناس أكتر مما تتخيل! ببعت المساعد بتاعى لأحياء شعبية يعرض عليهم يجيبو لى واحد أو واحدة، وميبلغوش عن اختفائهم، مقابل نص مليون جنيه!.. أول واحد قتلته كان بخمس طلقات فى رجليه الاتنين لحد ما ينزف، عشان أقول للموت: "بايدى أسلمهولك بطلقة فى الراس، وبايدى أسلمهولك واحدة واحدة"!.. بايدى أغلى وأعظم شىء فى الكون، الروح!.. و إغتصبت بنات وستات وعواجيز ودبحتهم وهما فى الذروة، و اللى خنقته بحبل، واللى خليته يبلع زيت مغلى!. دفنت كل الناس فى بدروم فى الأربع قصور.. أجمل ما فى طلوع الروح، إنك بتستدعى أقوى مخلوق فى العالم الأرضى والسفلى والعلوى، عشان يستلم هديتك بنفسه!.. قتلت كل أنواع البشر، حتى الأغنية، لكن بتمن أعلى!.. الناس هتمشى على أسفلت من جثث البشر!.. وجه الوقت أواجهه هنا، أشوف روحى وهى بتطلع شكلها ايه! والرعشة اللى فيها بيسلم الجسم على الروح، وقفلة العين كأنها ستارة شافت المسرح وفهمت الحكاية!.. هنا الحلبة بينى وبين الموت.. هنا آخر المشوار!.

جاء دور القاضى لحسم الأمر، وسط القابعين خلف الأسلاك الشائكة، و رجفة القلب كثائر يبحث عن حُريته، و استعداد الموت لاصطحاب المُختار الجديد لنهاية الدرب.. ليكون حكم القاضى هو: " فى اليوم المائة وسبعة وثمانين، و بعد سماع الثلاثة المُتقدمين للمحكمة، وبعد المشاورة، قررت المحكمة الحكم على المدعو عبداللطيف السيد عثمان".
"يتقدم الرجل الأول وفى عينيه دموع شوق تفتقد الحياه.. خلفه حارسى الأمن متوجهين لمنصة الاعدام.. ليعدم شنقاً".

بعد تنفيذ الحكم، يكرر القاضى التنبيه اليومى بما يلى: "عند كل باب منزل، رجل أمن يمنع القتل أو الانتحار، فاذا حدث، ُيعدم القاتل بأقصى أنواع القسوة، كالإعدام على الخوازيق أو بالحرق.. أما المُنتحر، فيُحكم على بقية عائلته بالموت شنقاً. انتهت المح..".  فجأة، قطع القاضى صوت صريخ الرجل الثانى الممتزج بطعنات سكين الرجل الثالث، وهو يقول: " هنا آخر المشوار !! هنا آخر المشوار !! ".

غداً، ميعاد آخر لمحكمة الرحمه.. والجميع يبحث عن لحظة وقوفه فى الجانب الأيسر من المنصة!.. جانب القفص الحديدى الذى يحمل فى جوفه ثلاثة أشخاص، الأوفر حظاً سيكون الفائز. لينال الآخران شرف خدمة العاصمة الأم للنظام !. هو الموت مُتمثلاً فى شخص يبحث عن عملة ذهبية أسفل جبل صخرى هائل، وأنت العُملة! هو حين يصبح الدم الغاز الذى يُشعل ترس ماكينة النظام! هو حين يكون العقل والروح وجهان للنرد بين يدىّ الحاكم! هو حيث صنع المزيد من المُتقدمين.. لطلب الموت!.

رحلتى فى المسجد !

أستعد الآن للنزول.. وما أحلى الخروج باصطحاب هدف، وهدفى اليوم هو المسجد!. سأترك المنزل لا لـ"تغيير عتبة" أو صحبة الأصدقاء على ناصية الشارع هروباً من تعنت الوالد على عدم تعدّى نفس العتبة! أو القانون الدراسى فى الامتحانات الذى يُحتّم ممارسة بعض الصلوات فى المسجد و الاعتكاف اذا لزم الأمر، ولكن كما تعلم "الوقت أضيق من الهوت شورت" ! والدعوات رجاءً من الله غزو الكائنات الفضائية لكوكب الأرض و تأجيل الإمتحانات لأجل غير مُسمى. ولكن هدفى اليوم، هو الكشف عن هوية المُصلين.

أثناء نزولى دار حديث بينى وبين والدى، ليقول..
-رايح فين؟.. قالها وهو يتابع النشرة الاخبارية.
-رايح أصلى فى المسجد.
ترك متابعة النشرة، وخصوصاً فى النشرة الرياضية، ولا يترك الرياضة الا وكان الأمر عظيم، ثم نظر لى نظرة ثاقبة توحى بأننى على وشك تسليم نفسى للقاعدة، وأنا أنظر اليه منتظراً قوله، فضحك، ضحك حتى احمر وجهه، ثم قال..
-تعرف ان انا وامك كنا برضو بنضحك على ابهاتنا و نقولهم اننا رايحين درس لمولانا الشيخ فى المسجد، وكنا بنتقابل من وراهم ونروح نضرب حلابسة ؟!.. آآآهخ كنت صايع زمان ! فامتصعش عليا !.
-بهدوء، تركت المفاتيح من يدى، و قلت له: لا يا بابا حضرتك فهمت غلط، انا نازل فعلاً أصلى فى المسجد عشان أنا محتاج أصلى فى المسجد !.
-نظر لى نفس النظرة الثاقبة مع الحركة الجاسوسية البحتة، كلمس الذقن بيديك احتكاكاً ورفع الحاجب الأيسر، عسى تنيره الحركة فيما لا يعلمه، ثم قال بهدوء: متصعش عليا قلتلك، يعنى هترجع هنا بعد الصلاة؟؟
-أيوه يا حج والله، هتلاقينى هنا بعد الصلاة ما تخلص.
-تمام، ولو صعت عليا، هشيل البلايستاشن من هنا ! انت عارف ان ابوك ممكن يتقلب فى فلوس.. فى الكلسون، لكن محدش يصيع عليه !.
-ماشى يا بابا.. بعد اذنك بقى عشان ألحق السنة.. سلام.

خرجت من البيت، وهو ينظر لى النظرة الثاقبة متأثراً بمسلسل "بريكنج باد" حاملاً أن أعود بعد الإنتهاء من الصلاة.. المسجد يسكن الناصية الثانية من الشارع، توجهت اليه وأنا أنظر لأصحاب المحلات الذين ينتظرون أذان الاقامة، هناك عم أحمد صاحب السوبر ماركت الذى يتابع التلفاز فى حماس شديد يساعده كيس شيبسى طماطم على الاستمتاع، بجانبه الأستاذ فخرى صاحب أدوات السباكة يسبح بحمد الله فى المحل، و آخرون يقبعون بداخل محلاتهم لا يفقهون أن هذه الدقائق لن تجعل محلاتهم شركة مايكروسوفت !. تقدمت لنزع حذائى وقد تكوّمت عدة أحذية وشباشب عند الباب، وآخرون يحرصون على دسها فى مكان آمن بعيد عن امكانية "حرامى الجزم" سرقتها. تكوّمت آخر صف لأشاهد كل ما يحدث، قطع ذهنى رجل يُبعد جميع الأحذية كى يضع حذائه الملىء بالطين فوق حذائى، فذهبت اليه، وقلت..
-بعد اذن حضرتك، ممكن تحط الجزمة بتاعة حضرتك فى مكان تانى، بس عشان جزمتى و الطين وكده.
-نظر لى نظرة اشمئزاز، ثم قال: هو انت اللى هتعلمنى النضافة !؟
-تمالكت أعصابى، وأظن أن رجلاً متزوجاً فى أوائل الثلاثينات ، يحتاج أنفه وشفتيه فى بعض المواقف، فقلت: لا العفو حضرتك، بس بعد إذنك عشان فيه أماكن تانية فاضية ممكن نحط فيها الجزم غير فوق جزمتى.
لم يرد علىّ، فقط نظر لى وتمتم بكلام أظنه شتائم، لكن لم أسمعه، المهم أنه فعل ما كنت أريد. مكثت حيث كنت، وأثناء رجوعى، أخذ يتهامس بعض كبار السن الجالسين على الكراسى البلاستيكية فى الأحاديث السياسية، وهم يحللون المؤامرة الماسونية فى سوريا، وتأثيرها على انخفاض بيع اللب السورى، وكيف أن ارتفاع سعر البنزين سوف يُخلصنا من مشكلة بزر البطيخ !. كى يؤذن الموذن للصلاة.

قبل الانتهاء من رفع الأذان، استعد المصلون للصلاة واكمال الصفوف الأمامية، وأنا أنتظر فى الوراء، مهمتى هى لقف الملاحظات وتعيينها اليوم، سامحنى يا الله!. يبدأ الامام فى النظر للصف الأول، ليطلب اغلاق الموبيل، وأيضاً "إستقيموا يرحمكم الله". كأن هذه الجملة صافرة حكم لبداية مباراة لكرة القدم، والإصبع الصغير هو الكرة !. يلتفت المصلون يميناً ويساراً وهم يلوّحون للمتأخر أن يسرع فى خطواته ويجذبون آخر من بنطاله أو جلبابه حتى يكتمل الصف، ثم يُغرس اصبعه الأصغر فى مثله للذى بجانبه، حتى أنه يتوتر عندما لا يشعر بصباعه الصغير، فلا يهدأ حتى يلصق اصبعه فى اصبع صديقه المُصلى !. ثم نادانى أحدهم، ليقول :" مش هتصلى يابنى؟؟ انت قاعد عندك بتعمل ايه؟؟"
-وقفت وجعلت من نفسى رجلاً يستعد للوضوء، فقلت :" المحشى بقى يا حج مش بيسيب الواحد فى حاله " !. قبل أن يُكبّر الإمام، نظر لى الرجل نظرة ثاقبة ! هل يعرف أبى؟!.

توجهت للحمامات، لا للوضوء، ولكن لتفعيل بعض المياه كى لا يقلق هذا الرجل على جزمته !. ثم دخل أحدهم، رجل فى الأربعينات،  ليترك جميع الأحواض السبعة كى يكون بجانبى !.. توضأت رغماً، وأثناء الوضوء، جاءه هاتف يحمل شعائر بصوت الشيخ الشعراوى، كى يرد ويقول: "ألو؟.. إزك آباشا؟؟.. آه والله فى نعمة الحمد لله.. هو عبمنعم مجاش الشقة؟؟.. طب تمام، هخلص أنا صلاه وأجيلك على طوول باشا.. ماشى يا باشا سلام سلام مع الف سلامة". أغلق الهاتف كى يصب الحديث لى..
-والله يا باشا من غير مقاطعة للوضوء يعنى، الناس مبقاش عندها صبر ! و لا حتى العيال بقى عندها ضمير ! الولا الصبى أبعته "يقذف المياه من فمه" عشان يشوف الكهربا بتاعة شقة جديدة، ويقولى رحت وملقتش الراجل، والراجل متسكع هناك من الصبح ! طب أعمل ايه أنا يا ريس؟! قلت أروح أنا هقضى المصلحة وأريّح الزبون وبعدها أشوف حكاية الولا ده ! ولا انت مش معايا؟!
-كنت قد فرغت من الوضوء وهو على وشك الانتهاء، فوضعت جملة تقف أمام مجرى مائى من الحديث الذى لن ينتهى الا بشنق الصغير، أو سباب الرجل صاحب الشقة، فقلت: ربنا معاك يا باشا.
-رد سريعاً وقام يجلب محفظته من خلفه كى يعرض علىّ الكارنيه الخاص به، ويقول: الله يكرمك يا باشا، وده الكارت بتاعى لو احتجتنى انا تحت امرك.
-ماشى يا "قرأت الاسم" اسطى حسن، بس نلحق الصلاه الأول.

اتخذت مكانى فى الصف الخلفى، و الرجل دون ترتيب ملابسه، يقف فى الصف يتساقط منه بعض قطرات المياه. يظهر صوتان مختلفى الوضوح، الصوت الأول هو صوت من يدعُ أثناء السجود ! يدعو كأنه يُغرق رأسه فى برميل من الماء ثم تقذفه خارجاً، يأخذ نفساً ويدعو ! حتى أنه ليكون مستفزاً وأنا فى الصف الخلفى !. و الصوت الآخر هو صوت نغمات الموبيل، كى يصبح المسجد بديلاً شرعياً عن الميكروباصات فى معرفة النغمات الجديدة. ثم انتهت الصلاه.

أخذ يقوم البعض بأداء السُنة، وآخر يحاول رسم خريطة المسجد بعينية بحثاً عن الثغرة التى يهرول منها للخروج !.. و الشخص الذى يستحق تصويب قذائف الهاون عليه، هو من يقوم ياغلاق الصف كاملاً بحيث لا يترك أى مساحة لمرور من أمامه عند الافراغ من الصلاه، بل هو مُتأخر أيضاً !. أذهب لجلب حذائى استعداداً للخروج، وللشحاذين القابعين على باب المسجد. أُعطى أحدهم جنيهاً، ثم أذهب للبيت، ليقابلنى والدى وهو فى نفس موضعه يتابع تحليل أخبار العالم بعيون ثاقبة مصدر خبرتها من مسلسل رأفت الهجان، وكونان. وهو يكرر تعليقاً واحداً: " العيب فى السيستم يا بشر.. العيب فى الدنيا !! ".  فتذكرت أن العبارة الصحيحة والمقصود اعمالها هى: " استقيموا فى حياتكم يرحمكم الله " !.


ساعاتى الأولى على كوكب الأرض !

حركة اهتزازية تحاول وضع بصمتها على المركبة الفضائية.. تهتز بعنف.. تهتز أكثر عنفاً لتدفعنى للخارج، بمساعدة بعض الأصابع الغليظة، حتى أغدو إلى حياة و زمن آخر، يُنهيه أحد ما، بمنتهى الروتينية، بقطع شريان الحياة بينى و بين المركبة كأمل أخير!.

يستقبلنى الجمهور، المُنتظر، ووالدى صاحب الأسطوانة الدائرية أسفل صدره، و الجزيرة النائية التى تُغطى رأسه، مصوّبين هواتفهم المحمولة تجاهى، لن أقوم بالقاء الخطبة الجمهورية اليوم على كل حال !.. ويصنعون من وجوههم طلاسم تعبر عن فرحتهم، عدا ضيق وجه "عمو فخرى و طنط سعاد" لعلمهم أننى فتى !.

ها هى المركبة الفضائية التى دفعتنى عن طيب خاطر إلى المجهول !.. تبدو مُنهمكة كأنها صُدمت باحدى الصخور الجبلية المتناثرة فى الفضاء قبل وصولها لكوكب الأرض !.. أو أننى فعلت ما ليس علىّ فعله ! حتى أتصوّر أننى هزمتها فى مباراة للملاكمة فى الجولة التاسعة، ولم أتلقّ ضربة واحدة !.

بين ذراعيها، تضع رأسى تجاه ثديها، ليعتصرها فمى، بكل تلقائية، حتى أفرغ، ومن ثمّ أطلب المزيد !.. لكن معدتى المتناهية الصغر لم تُسعفنى فى مقدار ما وددته !.. فلقد أحببت هذا السائل.. المُخدّر !.

أغدو فى لفافة زرقاء مُحكمة الجوانب، منعاً "للفلفصة"! ويعترينى الخوف من صاحب الأسنان الصفراء، كأن يكون مخموراً ويتجرعنى دفعةً واحدة ليظفر ببقاياى فى هواء لا توجد فيه ذرة أخرى تستوعب التلوث ! التلوث الذى يُضفى على رئتى المنكمشتين، انكماشاً !.

يتحوّل عنى صاحب الأسنان الصفراء، لأشاهد السفينة الأم تعتدل قليلاً وهى تتجرع ما يبدو عليه أنه يورانيوم، لكن لماذا يطلقون عليه "المغات"؟
لماذا فى الغالب تكون، مؤخرتى الوردية، محور حديث مضحك؟
من هذه السيدة صاحبة الصوت المدوى الصادر من حركة عضلات لسانها مع الصراخ فى آن واحد؟
طقس جنائزى سعيد بشىء ما !
ولماذا يدور حولى بعض الصغار مرددين بعض التعويذات بتلك الديناميكية؟

أتحوّل ليد شيخ يعتبره الأهالى، نبياً مغموراً، يُقبّلونها كلما شاهدوه !.. أو كقطعة حلوى فى فم هؤلاء الوجوه البهلوانية، يودّ الجميع لو يتذوّق طعمها !.. يشبهن السفينة الأم كثيراً، غير أنهن بحالة جيدة.. يُطبعن قُبلاتهن اللطيفة، و أتنقل بين أحضانهن الدافئة بأثدائهن الناعمة !.

ما هذه الخدمة الفندقية الرائعة؟!.
يحملنى الجميع فى سعادة غامرة!
الطلبات مُجابة، فقط أصرخ!
قُبلات لا تنقطع!
نهر من لبن تملكه وحدك، و يملأ جوفك أغلب الأوقات!
التنقل بين أحضان حسناوات المجتمع !
يمكنك تصور كم هو ظريف أن يبلل المرء ملابسه !
لماذا لا يحصل الجميع على مثل هذه الخدمة الرائعة؟!
كيف يعيشون حياتهم بغير هذا التودد؟!

فليكذب علىّ أحدكم ويقول لى إن الوضع سيستمر للأبد !.


الأربعاء، 26 نوفمبر 2014

حارة الزعابلة !

المكان :



الشوارع مُمتلأة هذه المرة، الأحذية لم تترك مساحةً لتنفس الأرصفة، و أشعة الشمس دخان سيجار زفرتة الشمس عن طيب خاطر فى كوكب الأرض !.. تبدو المدينة منهكة هذه المرة !.. و النهار قد رسم ملامح هذا الحارة العريقة.. يتعددها مُنحنيات لحوارى أصغر جانبية، نهايتها يقطنها ميدان بلا أشجار !. اذا نظرت لهذه الحارة المُتشعبة من الأعلى ستتخيلها كما تخيلتها دائماً.. كابورياية !.

حارة الزعابلة :

خطان متوازيان تتمثل لمنازل صغيرة عشوائية، تُميزها حجم " البوكسرات و الكولوتات" المختلفة اللون و الحجم على منشر الغسيل !.. والنساء المُتحاكيات فى "سفالة الأمور" يكسرون حاجز الروتين الذى يملأهن كالزيت فى دمائهن !..  عربة الكبدة و السجق لعم "فوزى" تأخذ إحتراماً خاصاً لما يقدمه من ساندوتش بجنيه و ربع، و بجنيه لكل من يجلب كلب خارج الحارة لذبحه و حشية فى ساندوتشات على بضعة أيام !.. و على عرش هذه الحارة " قهوة المعلم عطية " ..قهوة "عطعوطى" كما تردده زوجتة "حسنات" وسط الأحاديث، أو المعلم عطية هى إله آله الروتين، حفرة وُضعت فى المنتصف تشتم الكسل و الملل لتغرقك فى النهاية بأموالك !.. جوار القهوة تتراص دكاكين ُتضفى على الحارة شيئاً من الروح و ضروب العلاقات الإنسانية، من دكان حسن العجلاتى، لسمير الحلاق، و بقالة رجب البقال.. كما تشهد الساحة فى منتصف الحارة بضعة أطفال يلهون و يتحرشون بالمارة، و عند أبواب المنازل تفترش بجانبها بائعى الخضراوات و الفاكهة.. و الأغانى الشعبية النشيد الوطنى لهذه الحارة، التكاتك الكائن الهُلامى اللزج الذى يتحرك وسط كائنات أخرى يشبهونهم، و يدّعون أنهم من فصيلة "حواء" !. الإستحمام لغة لم يتقنونها بعد، أسطح البيوت مزرعة صغيرة لتربية الدواجن، و سكناً لقُبلات الغارمين. و يوجد المسجد الصغير فى آخر الحارة مكاناً دافئاً للمتخاصمين أو المطرودين منه عن الصلاه. 

السبت، 22 نوفمبر 2014

كل شيء يبدو على ما يرام !



أنا الآن أجلس في شرفة منزل
أتناول قهوة الصباح التقليدية
الجو بارد
المكان هادىْ للجنون
أنظر للسماء
كل شيء يبدو على ما يرام

السحب تتجمع ببطء في كتلة واحدة لترسم وجهاً عابساً دامٍ الفم أحمر العينين.. يبدأ الفنجان بالاختلاج..
الأرض تهتز كما لو أن الشرفة ستنزع من جسد البناية.. تُنتزع الشرفة.. لكنها تطفو في الهواء على بعد أمتار من المسكن المنهار، وكأنها تتيح لي فرصة مشاهدة منزلي أنقاضاً سرعان ما تتبخر على هيئة سرب عملاق من فراشات صفراء تندفع نحو السماء..
كل شيء يبدو على ما يرام.

تهبط الشرفة بسلام على أسفلت الذي تحول ملمسه لما يشبه المطاط.. مجرد أن تلمسه قدماك لتجد نفسك مقذوفاً بك إلى الأعلى أمتاراً.. الكلاب الضالة تنظر باندهاش.. القطط آخذه في التضخم لحجم الأُسود.. يرتفع أبى مربع من الأرض ليحملني طافياً كالبساط الطائر.. يبدو وكأنني علقت بإحدى آلات الزمن المعطلة، أم أن الكوكب تحت تأثير المخدر؟.. ينطلق بى البساط في طريق طالما عرفته، لكنه الآن ليس كما عاهدته دوماً.. الدكاكين يبرز منها أشخاص ذوى قرون يبيعون أشلاء بشرية مقابل مقابل أرجل الدجاجات.. يحوم في الهواء على بعد أمتار منى أطفال مجنّحون يلهون بالمارة.. على جانبي الطريق الرايات مخترقة الرصيف، و تنفجر الأحجار عن هياكل بشرية  تنفخ الأبواق في محفل مهيب.. و عجوز تجلس على حافة الطريق تبيع مناديل ملطخة بدماء الحرب.. الجميع يتحركون ويركضون و يتعانقون و يتبادلون التحيات بينما يغطون في نوم عميق..
كل شيء يبدو على ما يرام.

يلتف حولي أربعة مشعوذات يرتدين الأسود و تفوح منهن رائحة الرماد.. تخلو وجوهن من كافة الملامح.. يمسكن بى و يحكمن قيدي، ثم تفتح أحداهن فمي لتضع حبة منقوش عليها أحرف لاتينية، أبتلع الحبة لا إراديا كأنها تعرف طريقها لأحشائي.. تتبخر الراهبات غريبات الأطوار و هن يرددن : " عند الارتقاء.. يكمن الجنون.. عند الارتقاء يكمن الجنون ". أقف مذهولاً و شيء من الوخز يضرب لحم كتفي باطنياً..
كل شيء يبدو على ما يرام.

فجأة يتكسر عظام كتفي و يتمزق اللحم مُتمخضاً عن جناحان عظيمان ناصعا البياض يمتدان على جانباي تتساقط منهما ريشات تتحول لأرانب صغيرة زرقاء فور ملامسة الأرض.. الألم رهيب، لكن رهبة الطيران بجناحين  لأول مرة تطغى على المشاعر كافة..
كل شيء يبدو على ما يرام.

ومع أول تجاربي مع الطيران، ما إن نفضت الجناحان الهائلان حتى أصبحت أرتفع بسرعة غير معقولة في الهواء، مصطدماً بالأطفال المجنحين الذين يلهون بالمارة.. أتجاوزهم إلى طبقات أعلى.. أنظر خلف النوافذ.. أرى ناس سكارى يتساقطون من النوافذ كما يتساقط الريش من الجناح الطائر و يقعون فريسة سهلة في أيدي الأطفال المجنحين الجياع.. هذه النافذة تبدو ملجأ مناسب.. أقف الآن على حافة النافذة التي تجاوزت الطابق السبعمائة في مدينة لا تتجاوز منازلها الخمس طوابق.. كم من الصعب التنقل داخل شقة سكنية بجناحي عنقاء عملاقين.. إن فكرة الطيران تكون مناسبة في العراء فقط.. الآن أمام باب المطبخ، تقف هناك سيدة زنجية  ذات أربعة أذرع تطهو الطعام بسرعة جنونية لسد أفواه ما يفوق الخمسين طفلاً.. تستدير السيدة لتجد أن لها وجه كلب جيرمان شيراد، و فجأة و بدون إنذار ينطلق خلفي هذا المخلوق رباعي الأذرع نابحاً مطلقاً سيل من اللعاب على الأرض و تبدأ مطاردة مررنا فيها على غرفة تحتوى على العشرات من صغار هذا المخلوق وهم في ذروة الجوع.. لا أعرف كيف نجوت و لكنى وجدت نفسي أخيراً في غرفة غريبة نوعاً ما، قمت أولاً بإيصاد بابها العجيب لأجد أمامي بعض التجهيزات التي لا تصلح أن تكون ذات صلة بشقة سكنية.. فلدينا أجهزة قيادة القطار كاملة المعدات..
كل شيء يبدو على ما يرام.

الأمر يستحق الاستكشاف حقاً.. مازلت أعانى مشقة حمل جناحا العنقاء.. الآن نبدأ العبث بمفاتيح عشوائية، نضيء الأحمر، نغلق الأخضر، أنزل الكابس، أرفع الكابس.. تبدأ الأرض في الاهتزاز.. لحظة سكون.. العالم يتحرك حركة عجيبة و كأني آخذ في الهبوط.. أسرع للنظر من النوافذ المستديرة.. و بالفعل إن المبنى آخذ للهبوط، و ليس الانهيار.. إنما نغرس في الأرض و كأن أحد العمالقة يضغطه كالوتد على الأرض.. هذا الشيء الغريب ليس بناية فحسب، بل قطار، نعم بالفعل هو كذلك.. قطار يتحرك مخترقاً الأرض في رحلة أبدية.. و من الواضح أن حظي الغريب سيمنحني تجربة غجرية تستحق المشاهدة بجانب ما شاهدته.. فتتأهب الأرض فأنا أخترقها، و لينحى كل هيكل عظمى أشلائه بعيداً حتى يكون رقوده في سلام..
كل شيء يبدو على ما يرام.

يخترق القطار العظيم، و النوافذ تظهر الهواء الرفيع، السحاب الكثيف بأشكاله الملائكية، المباني الصغيرة، الأطفال المجنحون يلهون في أقرب طبقات الهواء ملامسةً للأرض، ثم يبدأ اختراق غرفتي في الأرض، هنا طبقة معتمة نتاج صنع الإنسان الحديث هي مادة تافهة طبعا، تليها طبقة الموتى، فالهياكل العظمية، فالهياكل العظمية المتحركة في حياة متكاملة تحت الأرض، متشبثين بحواف النافذة من الخارج ليراقبوا النور المنبعث من الداخل حنيناً لضوء الشمس، فيجرفهم التيار الصخري..
كل شيء يبدو على ما يرام.

حرارة الغرفة آخذه بالارتفاع.. الآن أبدأ التوغل في طبقات الحمم الداخلية.. الأمر ليس كما وصفوه لنا في الجيولوجيا الإنسانية على الإطلاق.. لا سائل برتقالي اللون.. لا فقاقيع منبعثة، إنما الأمر كله عبارة عن فراغ أسود قاتم لا شيء فيه.. فجأة يتوقف كل شيء.. تتوقف المركبة الغريبة.. يهدأ هدير المحركات.. تنطفئ الأنوار.. سيكون الأمر محرجاً لو علقت في طبقة من الهياكل العظمية المتحركة أو المذؤوبين.. أتلمس الطريق بحثاً عن النافذة.. يصدر فجأة من باطن الأرض وميض براق يُذهب الأبصار أغلقت له عيناي رغما.. أفتح عيناي..

أرى السماء و قد تكاثفت بها السحب على هيئة رجل عابس
الفنجان يختلج
القهوة مازالت ساخنة
المكان هادىْ للجنون
كل شيء يبدو على ما يرام

من الأفضل حفظ المخدرات بعيداً عن هذا الكوكب، و ليس عنى !.

المجد للشهداء
العبد الفقير إلى الله



الجمعة، 31 أكتوبر 2014

الكاميرا !



Written With Hans Zimmer -Tennessee.

المشهد الأول:

رجل يرتدى بيجامة منزلية، ساكن أمام مرآه مُعلقة على الحائط تُظهر نصفه الأعلى، و بعض من أجزاء الغرفة كالنافذة و الدولاب و السجادة النائمة على الأرض.. بعد ثوانى، يتجه يساراً ناحية الدولاب.

المشهد الثانى:

يضع سيارته فى حيز بجانب الرصيف، ليسير صاحبنا فى الشارع وسط الكثير من الناس غير مُكترث بالطريق، لا يعرف إتجاهه، يسير للأمام فقط مُرتدياً بنطلون جينز و قميص يعطيان مظهراً لا بأس به، و فى يده كاميرا ديجيتال يربت عليها جيداً. و يخطو..

المشهد الثالث:

يرفع الكاميرا على عينيه كى يسجل لحظات لأُناس يضعون بصماتهم فى كتابهم الأُخروى.. و مهمتة، تسجيل هذه اللحظة، و الأهم هذا الفرد.

-النموذج الأول: رجل يرتدى بذّة قيّمة، يخرج من سيارة موديل السنة تُعطى إيحاء أن للثراء فُحش حقيقةً.

-النموذج الثانى: شاب فى العشرينات ،واحداً من الأولتراس، يرتدى فانلة طُبعت عليها رقم ( 72 )، حاملاً حقيبة سوداء على ظهره، و يغرس الهيدفون فى أذنيه غير مُكترث.. إلا بقضيتة.

-النموذج الثالث: بنت فى أوائل العشرينات، مُنقبة  تقف عند بائع جائل يبيع الدبابيس المحفورة بكلمات تُعبّر عن شخصية حاملها، و قد أخذت دبوس يحمل " المجد للشهداء ".

-النموذج الرابع: إمرأة فى الأربعينات، تبدو كموظفات الحكومة، النهد المُتدلل، الخمار الزيتى، و قلباً يحمل جسداً على عاتقه.. تقف تتجادل جدال كهنة فرعون مع البائعين الجائلين على ثمن البضائع الصغيرة، و من ثمّ تبتعد مُنتظرة حافلة الشركة التى تمتلأ بالموظفين كما يملأ الصفار البيض !.

-النموذج الخامس: شاب فى الثلاثينات، زرع فى وجهة لحية ثقيلة نوعاً ما، يتمم على إغلاق أول زرار فى القميص بيد، و اليد الأخرى تحمل كُتب الجامعة.. يبتسم إبتسامة يدفنها فى الأرض مع وجهه حارصاً على تواجد يديه بجانبه.

-النموذج السادس: بائع جائل يبيع الذرة المشوية، ملابسه لا تدل الا على أن ماكينة الخياطة قد أحيت شيئاً فيها، تداعبة نسمات الهواء، لتخفف عليه قليلاً و هو ينادى على الماريين ب"كوز درة يطرّى عليهم" فيُقبّل المال الذى يأويه ويدسه فى جيبه حامداً شاكراً.

-النموذج السابع: طفل فى الثامنة من عمره تقريباً، يرتدى زياً أُحكم تناسقة الجمالى، وشعره الذى ينافس شعر فتيات المُراهقة فى النعومة "الطبيعية".. تُحكم سيدة بجواره غلق يديها جيداً عليه، وهو يتمسك بمحاولة الفرار، ليس من الحياة، ولكن من هذه اليد التى تضغط بالوتد على أول مسمار صنعته فى نعش "شخصيتة".

-النموذج الثامن: فتاة فى منتصف العشرينات، يخطف جمالها نظرات الرجال تلهفاً تَلهُّف أسماء على بضعه مياه تقطع بها نهر قد جف فى جوفها، و تخطف نظرات النساء غيرةً.. و الكعب العالى الذى يدق على أبواب مُغلقة فى أنفس الرجال حولها، آخذة فى السير تحمل حياتها خلف نظارتها الشمسية العريضة، و خطواتها تحمل خريطة مقصدها.

-النموذج التاسع: شاب فى بداية المراهقة، الموضة غسلته من "ساسة لرأسة".. حليق الجنبين ومن الخلف، تاركاً بعض من شعره فى المنتصف يعطى إنطباعا "ديكياً" نوعاً ما على مظهره.. بنطلون يغرق ولا أحد يُلبيه إستغاثةً، و يُشكّل تعرجات فخدية، و قميص أحكم إغلاق أزراره كلها من اليد و الصدر والرقبة، لا خوفاً من إنفلونزا، بل لتنفيذ أحكام قد وردت على لسان.. الموضة.

-النموذج العاشر: طفل، نعم طفل وإن بدا أكبر من مجرد طفل.. الطفولة هى الشىء الوحيد الذى يجب إتمامه، كى تستطيع أن تخطو باقى طريقك !.. ملابسة كحياتة، مُلطخة بالقاذورات و التراب الذى شيئاًُ فشيئاً يخلق من طريقة صحراء جرداء لا مُنجى فيها الا عزرائيل !.. يضع نفسه عُكازاً تتكأ عليه سيدة فى أواخر عُمرها لتعدية طريق أخذتة السيارات مجالاً للتسابق.. و الجائزة، جثة إنسان آخر !.

المشهد الرابع:

الكاميرا تُحذّر الرجل من نهاية مشوار بطارية قادتة لتسجيل صور و مشاهد عشوائية فى شوارع لم يعد فيها مكان لذرة تراب أخرى، و لا نفساً سوى غباء السيارات الذى يضيق بصدر المارة، و سيارات النقل العامة التى تشحن جثثاً إنقشعت حياتهم فى جسدهم بحثاً عن آخر الدرب.. فيغلق الكاميرا.

المشهد الخامس:

فى سيارته، يُخرج بعض من ورق المُلاحظات و قلم جاف، فى نفس الوقت الذى يتحرك بسيارته، يتذكر ما إلتقتهم صوراً أثناء سيره،  ويكتب على التابلوه و أحيانا على ساقيه و يرمى بالورق بجانبه فى ضحك، و كثيراً ما كان سيدهس ماراً فى طريقة، لكنه لا يبالى بغير إكتمال كتابتة للعشر ورقات !.

المشهد السادس:

ينتهى من كتابة العشر ورقات.. إنتباهه للطريق جاء مُتأخراً هذه المرة، ليجد نفسه غائباً عن الوعى بعدما دكّت سيارتة بعمود كهربائى فى جانب من الشارع، و الورق يتناثر بداخل السيارة، و كلمات تبدو أوضح عليه.. " حرامى.. بلطجى.. رجعيّة.. مُقززة.. ُمتعصب و متخلف.. سافل، كمثل باقى جيله القادم.. مومس.. لا يستحق الحياة.. مثل هؤلاء، أنصحه بعدم ترك البامبرز.. بائع مخدرات " .

المشهد السابع:

يفيق من غفوتة سريعاً، على السرير محاولاً اللحاق بضربات قلبه، و عن ما الذى حدث !.. يرفع الغطاء متوجهاً للمرآه لرؤيته أوراق تتطاير من بصيص هواء النافذة، و مكتوب علي كل ورقة الكلمات التى شاهدها فى حلمه !.. يجلب الكاميرا لتفرش هى الأجوبة على مائدة أسئلته.

المشهد الثامن:

شارع يحيط به العديد من الناس، تقترب الكاميرا من أحد الأفراد و هو يغلق سيارتة الثمينة و يُعدّل من ملابسه ليلتقى برجل يبيع الذرة يضع فى يده ظرف أبيض عريض يشعل سعادةً فى نفس الرجل صاحب الذرة.. تتحرك الكاميرا بعيداً، ثم تقف بحثاً عن صداقة تبتسم لها رغماً، رجل أخذت لحيته نصف وجهه، و شاب يرتدى تيشيرت الأهلى المطبوع برقم "72" يسيران بجانب بعضهما ضاحكين وقد أخرج الشاب من حقيبتة نفس الكتب التى يحملها الرجل ليحمسا بعضهما للمذاكرة للامتحان الذى سيواجههم بداخل الكلية.. تمر الكاميرا بمرحلة أخرى، بنت تحمل جسد keira knightley  تتحدث فى سعادة مع طفل ملأه التراب، تأخذه من يديه لمقصد أظنه حافلاً له من هذه السعادة و الفرحة التى نفضت عذاب أيام أو شهور من حاله.. تتوجه الكاميرا لناحية أخرى، سيدة تحاول قدميها حملها، و تُخرج الموبيل الخاص بها، ليبعث المُتصل فى روحها وقلقها الواضح قبل المكالمة، سعادةً تشق صخر عيناها لينفجر عن سيل من ماء عذب يُحيى آمالاً قد بُعثت من جديد !.. تغلق الموبيل لتقول لصاحباتها حولها فى سعادة غامرة : " على ابنى الكبير اتقبل فى الشركة الأجنبية دى  و هيبدأ الشغل بكرة و هرتاح فى آخر أيامى بقى !! والله لانتوا معزومين عندى الجمعه الجاية ان شاء الله و اللى مش هييجى هبعتله نصيبة برضو !!.. يا رب  لك الحمد و الشكر يا رب " ..وسط فرحة هذه السيدة، تُلقى الكاميرا بنفسها على منقبة تُغرس فى جانبها دبوس مكتوب عليه "المجد للشهداء" و تتحاور و تتناقش فى احترام متبادل و ثقافة سياسية أظنها محور حديثهم، مع شاب غطت جسده الموضة، بدلاً من تغطية تفكيره، جمعهم حوار سابق يجمع صديقتها و شاب تتحدث معه، و دخل حديثهما ضيفاً عليهما.. ينتقل الخط العريض الى آخر مساره  فى شريط الفيديو، سيدة تضع يديها على يد طفلها فى عصبية تمنعه من الحركة، ُدمية تتكلم بيد يديها، و هو.. مازال مُتمسكاً بالمحاولة فى رفض هذه اليد.

المجد للشهداء
العبد الفقير إلى الله



الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

النهاية !




أنا سجين نفسي .. !

حياتي مُبعثرة في جوانب بيتي.. غرفتي تدفن ماضيّ.. الكراريس المحشوّة بقلمى الجاف، المكتبة المحشوة بكتبى كالاسنان فى الفم، و مضرب التنس المكسور.. أقوم بتلبية طلبات كل الأشياء التي تضرب الجرس على باب عقلى.. أتبول أحيانا في الشرفة على الماريين وعندما يشاهدني أحدهم يقوم بسب أمي أو أبى !.. ما علاقتهما بالذي فعلته بك؟! و لا أنكر أن هذه الشتائم تُسعدني حقاً.. أنصب حفل لنفسي و أضع مكبرات الصوت الخاصة بأجهزة الكمبيوتر في الشرفة، عند الباب، وفى منتصف الصالة، هو الصخب الذي إذا صرخت، فستكون القاضي على حنجرتك !. موسيقى تتلاعب بأعضائك، قوة تُحرك أطرافك عنوة، لماذا لا تصبح بديلاً عن  الفياجرا في العلاقات الجنسية؟.. أعتقد أنها شديدة لتلبية الغرض !... حاول أحد الجيران باستدعاء الشرطة ذات يوم، بعدما هددني من خلف باب الشقة، فقذفته بداخل المنزل نصف ساعة كانت كافية بأن يجلب موس الحلاقة و يقطع بها لسانه، ثم يمضغه، فيموت خنقا !.. لماذا لا توجد شرطة للمجانين في هذه البلد المكتظة بالعته و الجنون؟!.. الجنون ليس الذي يُبطل مفعول العقل، الجنون هو أنك لا تدرى نتيجة أفعالك !. و هذا الكرسي الخشبي الذي يجلس في منتصف الصالة وحيداً بجانب منطدة صغيرة، والمرآة التي تعكس صورة الكرسي أيضاً.. و كثيراً ما أجد أبى هناك !..

لم يعاملني أبى كولده أبداً، يأخذ من نفسى أرضاً واسعةً يزرع فيها الكُره، يتركني في البيت وحيداً كباقي أثاث المنزل !.. من وأنا في سن التاسعة من عمري، و هو لا يأتي مفرداً، بل بمومس يقضى الليل معها و يطردني من البيت، أو أيام  بصحبه أصدقائه يلعبون القمار و يتجرعون الخمر و السجائر الملفوفة .. و يجعلني خادما عليه هو و أصدقاءه.. هربت من البيت أكثر من عدد ضربه لى، و آخر مرة حاولت الهرب فيها، وجدتني الشرطة في إحدى الإحياء بعدما فشل أبى في العثور علىّ.. لا أعلم إذا كان في أشد غضبه من أي وقت مضى ﻷنني هربت مجددا، أم ﻷته فشل في العثور علىّ هذه المرة؟.. أخذ مضرب التنس الذي اشتريته من وراء ظهره، و راح يضربني به على رأسي و جسدي، توسلت إليه الا يضربني بهذا المضرب حتى لو ضربني بالساطور، فكان توسلي سبباً أكبر ليحطم هذا المضرب على جسدي!.. ظللت في غرفتي خمسة أشهر  أتلقى العلاج المتردد من دكتور صديق أبى في كل مرة يأتي فيها إلى المنزل.. حيث الكدمات على جسدي تأخذ طرقاً مُتشعبة !.. و أبى من الحين للآخر يرمى لي الطعام و يغادر. اسمى كان سُبه بالنسبة له، لا ينادينى الا بالغبى، و بعض الشتائم المقذعة.. أخذت من فراغى المرضى كتاباً أحاول تسطير حياتى فيه من خلال قلم جاف و كراسة صغيرة تحمل بين ثناياها كلماتى.. وأكتب.

كنت أنتظر النهاية، النهاية لأي شيء، حتى لو كانت نهايتي، سأسعد بها، سأستقبلها كأمى إذا بعثت الحياة فيها من جديد !.. أو تكون نهاية هذا الشخص –أبى- و شيء بداخلي يُحرك هذه الأمنية، كأنه يربض على كتفي و يقول لي : " لا تقلق.. سينتهي كل شيء قريباً ". بعدها ظللت سبعة عشر سنة أنتظر هذه النهاية.. المجهول.. الشبح الذي أخطو خلف خطواته.. و أنا أنتظر محطتي التي سأبدأ فيها البداية لكل شيء.. محطة النهاية !.

إستيقظت لأجدنى مُلقى على أرض غطتها الرمال الناعمة، ثم أعتدل كى يجاوب ضوء القمر على تساؤلى و أجده  مقبرة !.. ما الذي جاء بى إلى هنا!؟.. لا أحد سواى !.. ركضت بأقصى سرعة في كل الاتجاهات و أنا أصرخ للمساعدة، و لكنى لا أرى حدود هذه المقبرة من الأشجار الكثيفة و الظلام الذي يكسوها.. وجدت بيتاً أخيراً، أو هكذا خُيّل إلى في بادئ الأمر، اتجهت إليه سريعاً، وجدت الباب مفتوحاً، لكن لا وجود لأحد.. أصرخ ولا أحد يجاوبني، أين أنا بحق الله !؟.. أحاول العثور على أي مصدر للكهرباء، و أخيراً أجد مصباح بجانبه علبة كبريت صغيرة، يدي المرتعشة لم تفلح في إضاءة المصباح في بادئ الأمر، حتى أشعلته.. أتجول داخل هذا المنزل بمصباح إضائتة تكفى لرؤية قدمىّ فقط... ثم أدخل غرفة ما، فأجد سريري و مضربي !.. أنا في بيتي !!.. ما الذي حدث !!.. أين أنا !!.. تأكدت أنه منزلي بعدما أضائت كل الأنوار فجأة و صوت من الجلل قطعني، صوت أعلمه جيداً، أنه صوت أبى ! أهو هنا منذ البداية؟! لماذا لم يجاوب ندائي !.. قطع اسألتى صوت أبى و هو يقول في توسل و خوف " عن ماذا تتكلم ؟؟ لا أفهم شيء.. سأفعل كل ما تطلبه منى.. أرجوك لا تقتلني ! ".. خرجت مسرعا من الغرفة، لكن الباب كأنه تصلب في مكانه ! تمسكت بالمحاولة و أنا أصرخ لأبى و هو لا يجاوبني !.. ُفتح الباب فجأة و بقوة اندفعت للوراء !.. حملت نفسي سريعا و توجهت لأبى كي أجد عنقه قد قُطعت بسكين وهى بجانبه ! و باب البيت يُغلق من جانب أحد ما بقوة!.. الدم يسيل و يتفرع في أرجاء الغرفة و يتحول لثعابين تحاول الانقضاض علىّ و هي تقول بصوت مبحوح " سينتهي كل شيء قريباً ! ".

صرخت حتى وجدت نفسي ملقياً على سريري و قلبي مسجون داخل جسدي يحاول الهرب و لا أستطع تمالك نفسي حتى بدأت أهدأ كلما تيقنت أنه حلم، بل كابوس !.. لم يكن مجرد حلم، بل شعرت بكل شيء حدث وتم فيه ! .. توجهت للخارج مسرعاً حتى أجد أبى مثلما وجدته في الحلم !.. ملقى على الأرض، عيناه جاحظتان في ذهول كأنه تحدث مع عزرائيل قبل مماته، عنقه قُطعت كشق بطيخة، و الدم يملأ نصفه الأعلى !.. و محفور على الجدار الذي يصوب عينة جملة تقول " سينتهي كل شيء قريباً " ! .  

إذن ما الذي حدث!؟ ما هذه الجملة التي تطاردني حتى في أحلامي ! و لماذا بعد نهاية أبى تستمر في ملاحقتي !؟.. كالمجنون أبكى ولا أعرف كيف أُلملم نفسي، أبحث في البيت عن هذا القاتل و كأنه تبخر!.. هل كان حلم حقيقي؟؟ ما علاقة الأحلام بالحقيقة!.. زرعت نفسي في جانب من البيت أبكى وأدفن رأسي بين قدميّ.. الحزن أم الاطمئنان؟.. حيوانان مُفترسان يصارعان بعضهما كي يخرج فائزاً على جثة الآخر !.. لا أعلم !.. المنتصف دائماً مخيف.. أن تكون في حالة و أخرى.. النصف بين الفرح و الحزن، الرضا و السخط، الحقيقة و الزيف. المنتصف هو حالة اللاحالة، التيه الكامل، العودة لم تعد خيار، إذا أشعلت الغابة، فليس من الشهامة إذن التضجر من صوت وقوع الأشجار !.. بعد فترة، قمت بحمله و وضعه في ملاية سرير و ربطه جيداً كي أنطلق بالسيارة و ألقيه في النهر فجراً.
لم تدم وحدتي طويلاً.. أثناء استحمامي و أنا أقف أمام المرآة رأيت أبى بعنقه المبتورة يمسك برقبتي و يحاول غرز السكين فيها، تلفت سريعا فلم أجد أحد !!.. كانت فقط البداية، و دائما البداية لا تأتى إلا وهى تحمل في جوفها .. النهاية !.

تعودت على أبى في البيت كما يعتاد شيخ المقابر على محادثة الموتى.. و نفسي بناية مهجورة تصلح لحكايات العفاريت.. كلما دخلت غرفة كنت أجده واقفا ينظر إلىّ فقط و أحياناً إلى الجدران ! و عندما أحادثة لا يتكلم، الموتى قادرون على الحركة لا الكلام أعتقد !.. حتى حدثني هو و أنا ارتمى على السرير .. فقال بصوت مبحوح و هو يقترب منى و فمه لا يتحرك : " سينتهي كل شيء قريباً"..  كأن الذاكرة سحبتني بداخلها كي أعيد مشاهد في طفولتي و غيرها.. الضرب .. مضرب التنس.. سريري.. غرفتي.. المقبرة.. البيت.. المصباح.. الظلام.. الثعابين.. الدماء.. و أبى !.. أفيق من غفوتي فلا أجد هذا الشيء أمامي !.
بحثت عنه، انتظرت مجيئه.. خرجت للصالة كي أجده يقف أمام الكرسي و ينظر إلى الجدران دون حراك ! ثم أصرخ فيه قائلاً..

-" ما الذي تريده منى !! ألن تتركني أبداً !! لطالما عشت معك و أنا مدفون في هذه المقبرة !! ".  

- بجديّة و بصوت فيه حشرجة و هو يستمر في النظر إلى الجدران كأنه يبحث عن شىء : " أنت طلبت النهاية، و أنا الآن أساعدك عليها ".

- النهاية التي طلبتها قد تحققت بموتك !.. لم أتردد فى مجاراته ولم أعط فرصة لقلبى بالخوف من كلامه الأول، و فى عقلى قد أخذ آخر درجة للغليان

- الليل سيطول هذه المرة، ليست ككل مرة !.. قالها و هو ينظر الىّ دون تعبيرات !

- لست أنت من تصنع النهايات على ما أعتقد !.. يستطرد كلامه كتسليم صوفى لحكمة تقليدية من فم نبى مغمور

-آثار أقدامنا مقابر مؤقتة لزمن عابر.. و ضجيجنا وشم فى الهواء.. الدرب ليس طولاً جداً

أغلقت عيناى رغماً لبركان يقذف كراتة النارية فى كل جسدى ! و يستطرد..

- الليل سيطول هذه المرة، ليس ككل مرة، الأرق سيملأ كل شىء، الأبواب موصدة، سنطفأ الأنوار، لكن لنسمح ببعض من أشعة القمر تُلهب حماس حياة مدفونة فى البيت..

اصرخ فيه و أشعر بحركة أحشاءى : " اصمت !! كفاك جنوناً و اتركنى الآن !! ".. يمزج صوتة بصريخى مستمر فى الحديث، وأنا أخذت جانباً أحاول السيطرة على المرض الذى يتغذى علىّ..

- سيمر كل شئ، وكأن أحداً لم ينتظره، ثم سنكتم أنفسنا، وبأعين مفتوحة من الذعر، سننتظر صباح لن يأتى.

توقف عند هذه الجمله ساكناً لا يتحرك له جفناً، و أخذت قراراً بأن لن ينتهى شىء الا بقتله مجدداً هذا الشىء، إذا ألمت أحد، فلا تتضجر من صوت صريخه !..

في غير اتزان تحاول قدميّ حمل جسدي، و أتوجه صوب هذا الشيء.. عيناه لا تفارقان عيني، كأنه يعلم ما الذي سيحدث.. أحمل السكين التي على المنطدة، و أقوم بالاقتراب منه أكثر، و هذا الشيء يقف في المنتصف دون حركة، ينظر لي فقط، و ابتسامة ليس لها معنى ترتسم على وجهه !.. و دون تردد  قمت بقطع عنقه.. و آخر شيء رأيته كان إنعكاس صورتي في المرآة و أنا أقطع عنقي، و كراسة صغيرة بجانبى آخر ما وردت فيها : " سننتظر صباح لن يأتى.. كل شى سينتهى قريباً ".

المجد للشهداء
العبد الفقير إلى الله