الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

النهاية !




أنا سجين نفسي .. !

حياتي مُبعثرة في جوانب بيتي.. غرفتي تدفن ماضيّ.. الكراريس المحشوّة بقلمى الجاف، المكتبة المحشوة بكتبى كالاسنان فى الفم، و مضرب التنس المكسور.. أقوم بتلبية طلبات كل الأشياء التي تضرب الجرس على باب عقلى.. أتبول أحيانا في الشرفة على الماريين وعندما يشاهدني أحدهم يقوم بسب أمي أو أبى !.. ما علاقتهما بالذي فعلته بك؟! و لا أنكر أن هذه الشتائم تُسعدني حقاً.. أنصب حفل لنفسي و أضع مكبرات الصوت الخاصة بأجهزة الكمبيوتر في الشرفة، عند الباب، وفى منتصف الصالة، هو الصخب الذي إذا صرخت، فستكون القاضي على حنجرتك !. موسيقى تتلاعب بأعضائك، قوة تُحرك أطرافك عنوة، لماذا لا تصبح بديلاً عن  الفياجرا في العلاقات الجنسية؟.. أعتقد أنها شديدة لتلبية الغرض !... حاول أحد الجيران باستدعاء الشرطة ذات يوم، بعدما هددني من خلف باب الشقة، فقذفته بداخل المنزل نصف ساعة كانت كافية بأن يجلب موس الحلاقة و يقطع بها لسانه، ثم يمضغه، فيموت خنقا !.. لماذا لا توجد شرطة للمجانين في هذه البلد المكتظة بالعته و الجنون؟!.. الجنون ليس الذي يُبطل مفعول العقل، الجنون هو أنك لا تدرى نتيجة أفعالك !. و هذا الكرسي الخشبي الذي يجلس في منتصف الصالة وحيداً بجانب منطدة صغيرة، والمرآة التي تعكس صورة الكرسي أيضاً.. و كثيراً ما أجد أبى هناك !..

لم يعاملني أبى كولده أبداً، يأخذ من نفسى أرضاً واسعةً يزرع فيها الكُره، يتركني في البيت وحيداً كباقي أثاث المنزل !.. من وأنا في سن التاسعة من عمري، و هو لا يأتي مفرداً، بل بمومس يقضى الليل معها و يطردني من البيت، أو أيام  بصحبه أصدقائه يلعبون القمار و يتجرعون الخمر و السجائر الملفوفة .. و يجعلني خادما عليه هو و أصدقاءه.. هربت من البيت أكثر من عدد ضربه لى، و آخر مرة حاولت الهرب فيها، وجدتني الشرطة في إحدى الإحياء بعدما فشل أبى في العثور علىّ.. لا أعلم إذا كان في أشد غضبه من أي وقت مضى ﻷنني هربت مجددا، أم ﻷته فشل في العثور علىّ هذه المرة؟.. أخذ مضرب التنس الذي اشتريته من وراء ظهره، و راح يضربني به على رأسي و جسدي، توسلت إليه الا يضربني بهذا المضرب حتى لو ضربني بالساطور، فكان توسلي سبباً أكبر ليحطم هذا المضرب على جسدي!.. ظللت في غرفتي خمسة أشهر  أتلقى العلاج المتردد من دكتور صديق أبى في كل مرة يأتي فيها إلى المنزل.. حيث الكدمات على جسدي تأخذ طرقاً مُتشعبة !.. و أبى من الحين للآخر يرمى لي الطعام و يغادر. اسمى كان سُبه بالنسبة له، لا ينادينى الا بالغبى، و بعض الشتائم المقذعة.. أخذت من فراغى المرضى كتاباً أحاول تسطير حياتى فيه من خلال قلم جاف و كراسة صغيرة تحمل بين ثناياها كلماتى.. وأكتب.

كنت أنتظر النهاية، النهاية لأي شيء، حتى لو كانت نهايتي، سأسعد بها، سأستقبلها كأمى إذا بعثت الحياة فيها من جديد !.. أو تكون نهاية هذا الشخص –أبى- و شيء بداخلي يُحرك هذه الأمنية، كأنه يربض على كتفي و يقول لي : " لا تقلق.. سينتهي كل شيء قريباً ". بعدها ظللت سبعة عشر سنة أنتظر هذه النهاية.. المجهول.. الشبح الذي أخطو خلف خطواته.. و أنا أنتظر محطتي التي سأبدأ فيها البداية لكل شيء.. محطة النهاية !.

إستيقظت لأجدنى مُلقى على أرض غطتها الرمال الناعمة، ثم أعتدل كى يجاوب ضوء القمر على تساؤلى و أجده  مقبرة !.. ما الذي جاء بى إلى هنا!؟.. لا أحد سواى !.. ركضت بأقصى سرعة في كل الاتجاهات و أنا أصرخ للمساعدة، و لكنى لا أرى حدود هذه المقبرة من الأشجار الكثيفة و الظلام الذي يكسوها.. وجدت بيتاً أخيراً، أو هكذا خُيّل إلى في بادئ الأمر، اتجهت إليه سريعاً، وجدت الباب مفتوحاً، لكن لا وجود لأحد.. أصرخ ولا أحد يجاوبني، أين أنا بحق الله !؟.. أحاول العثور على أي مصدر للكهرباء، و أخيراً أجد مصباح بجانبه علبة كبريت صغيرة، يدي المرتعشة لم تفلح في إضاءة المصباح في بادئ الأمر، حتى أشعلته.. أتجول داخل هذا المنزل بمصباح إضائتة تكفى لرؤية قدمىّ فقط... ثم أدخل غرفة ما، فأجد سريري و مضربي !.. أنا في بيتي !!.. ما الذي حدث !!.. أين أنا !!.. تأكدت أنه منزلي بعدما أضائت كل الأنوار فجأة و صوت من الجلل قطعني، صوت أعلمه جيداً، أنه صوت أبى ! أهو هنا منذ البداية؟! لماذا لم يجاوب ندائي !.. قطع اسألتى صوت أبى و هو يقول في توسل و خوف " عن ماذا تتكلم ؟؟ لا أفهم شيء.. سأفعل كل ما تطلبه منى.. أرجوك لا تقتلني ! ".. خرجت مسرعا من الغرفة، لكن الباب كأنه تصلب في مكانه ! تمسكت بالمحاولة و أنا أصرخ لأبى و هو لا يجاوبني !.. ُفتح الباب فجأة و بقوة اندفعت للوراء !.. حملت نفسي سريعا و توجهت لأبى كي أجد عنقه قد قُطعت بسكين وهى بجانبه ! و باب البيت يُغلق من جانب أحد ما بقوة!.. الدم يسيل و يتفرع في أرجاء الغرفة و يتحول لثعابين تحاول الانقضاض علىّ و هي تقول بصوت مبحوح " سينتهي كل شيء قريباً ! ".

صرخت حتى وجدت نفسي ملقياً على سريري و قلبي مسجون داخل جسدي يحاول الهرب و لا أستطع تمالك نفسي حتى بدأت أهدأ كلما تيقنت أنه حلم، بل كابوس !.. لم يكن مجرد حلم، بل شعرت بكل شيء حدث وتم فيه ! .. توجهت للخارج مسرعاً حتى أجد أبى مثلما وجدته في الحلم !.. ملقى على الأرض، عيناه جاحظتان في ذهول كأنه تحدث مع عزرائيل قبل مماته، عنقه قُطعت كشق بطيخة، و الدم يملأ نصفه الأعلى !.. و محفور على الجدار الذي يصوب عينة جملة تقول " سينتهي كل شيء قريباً " ! .  

إذن ما الذي حدث!؟ ما هذه الجملة التي تطاردني حتى في أحلامي ! و لماذا بعد نهاية أبى تستمر في ملاحقتي !؟.. كالمجنون أبكى ولا أعرف كيف أُلملم نفسي، أبحث في البيت عن هذا القاتل و كأنه تبخر!.. هل كان حلم حقيقي؟؟ ما علاقة الأحلام بالحقيقة!.. زرعت نفسي في جانب من البيت أبكى وأدفن رأسي بين قدميّ.. الحزن أم الاطمئنان؟.. حيوانان مُفترسان يصارعان بعضهما كي يخرج فائزاً على جثة الآخر !.. لا أعلم !.. المنتصف دائماً مخيف.. أن تكون في حالة و أخرى.. النصف بين الفرح و الحزن، الرضا و السخط، الحقيقة و الزيف. المنتصف هو حالة اللاحالة، التيه الكامل، العودة لم تعد خيار، إذا أشعلت الغابة، فليس من الشهامة إذن التضجر من صوت وقوع الأشجار !.. بعد فترة، قمت بحمله و وضعه في ملاية سرير و ربطه جيداً كي أنطلق بالسيارة و ألقيه في النهر فجراً.
لم تدم وحدتي طويلاً.. أثناء استحمامي و أنا أقف أمام المرآة رأيت أبى بعنقه المبتورة يمسك برقبتي و يحاول غرز السكين فيها، تلفت سريعا فلم أجد أحد !!.. كانت فقط البداية، و دائما البداية لا تأتى إلا وهى تحمل في جوفها .. النهاية !.

تعودت على أبى في البيت كما يعتاد شيخ المقابر على محادثة الموتى.. و نفسي بناية مهجورة تصلح لحكايات العفاريت.. كلما دخلت غرفة كنت أجده واقفا ينظر إلىّ فقط و أحياناً إلى الجدران ! و عندما أحادثة لا يتكلم، الموتى قادرون على الحركة لا الكلام أعتقد !.. حتى حدثني هو و أنا ارتمى على السرير .. فقال بصوت مبحوح و هو يقترب منى و فمه لا يتحرك : " سينتهي كل شيء قريباً"..  كأن الذاكرة سحبتني بداخلها كي أعيد مشاهد في طفولتي و غيرها.. الضرب .. مضرب التنس.. سريري.. غرفتي.. المقبرة.. البيت.. المصباح.. الظلام.. الثعابين.. الدماء.. و أبى !.. أفيق من غفوتي فلا أجد هذا الشيء أمامي !.
بحثت عنه، انتظرت مجيئه.. خرجت للصالة كي أجده يقف أمام الكرسي و ينظر إلى الجدران دون حراك ! ثم أصرخ فيه قائلاً..

-" ما الذي تريده منى !! ألن تتركني أبداً !! لطالما عشت معك و أنا مدفون في هذه المقبرة !! ".  

- بجديّة و بصوت فيه حشرجة و هو يستمر في النظر إلى الجدران كأنه يبحث عن شىء : " أنت طلبت النهاية، و أنا الآن أساعدك عليها ".

- النهاية التي طلبتها قد تحققت بموتك !.. لم أتردد فى مجاراته ولم أعط فرصة لقلبى بالخوف من كلامه الأول، و فى عقلى قد أخذ آخر درجة للغليان

- الليل سيطول هذه المرة، ليست ككل مرة !.. قالها و هو ينظر الىّ دون تعبيرات !

- لست أنت من تصنع النهايات على ما أعتقد !.. يستطرد كلامه كتسليم صوفى لحكمة تقليدية من فم نبى مغمور

-آثار أقدامنا مقابر مؤقتة لزمن عابر.. و ضجيجنا وشم فى الهواء.. الدرب ليس طولاً جداً

أغلقت عيناى رغماً لبركان يقذف كراتة النارية فى كل جسدى ! و يستطرد..

- الليل سيطول هذه المرة، ليس ككل مرة، الأرق سيملأ كل شىء، الأبواب موصدة، سنطفأ الأنوار، لكن لنسمح ببعض من أشعة القمر تُلهب حماس حياة مدفونة فى البيت..

اصرخ فيه و أشعر بحركة أحشاءى : " اصمت !! كفاك جنوناً و اتركنى الآن !! ".. يمزج صوتة بصريخى مستمر فى الحديث، وأنا أخذت جانباً أحاول السيطرة على المرض الذى يتغذى علىّ..

- سيمر كل شئ، وكأن أحداً لم ينتظره، ثم سنكتم أنفسنا، وبأعين مفتوحة من الذعر، سننتظر صباح لن يأتى.

توقف عند هذه الجمله ساكناً لا يتحرك له جفناً، و أخذت قراراً بأن لن ينتهى شىء الا بقتله مجدداً هذا الشىء، إذا ألمت أحد، فلا تتضجر من صوت صريخه !..

في غير اتزان تحاول قدميّ حمل جسدي، و أتوجه صوب هذا الشيء.. عيناه لا تفارقان عيني، كأنه يعلم ما الذي سيحدث.. أحمل السكين التي على المنطدة، و أقوم بالاقتراب منه أكثر، و هذا الشيء يقف في المنتصف دون حركة، ينظر لي فقط، و ابتسامة ليس لها معنى ترتسم على وجهه !.. و دون تردد  قمت بقطع عنقه.. و آخر شيء رأيته كان إنعكاس صورتي في المرآة و أنا أقطع عنقي، و كراسة صغيرة بجانبى آخر ما وردت فيها : " سننتظر صباح لن يأتى.. كل شى سينتهى قريباً ".

المجد للشهداء
العبد الفقير إلى الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق