الخميس، 26 فبراير 2015

محكمة الرحمة



تُحيط المحكمة الأسلاك الشائكة الضخمة المُحصنة برجال الأمن أصحاب الأسلحة المتطورة، ترسو فى الهواء الحر الذى يلمس عبودية من يتكوّمون خلف الأسلاك منتظرين بداية الحدث!. نساء تسحب أولادها ورائها كمن يجر خيبة مؤجلة، ورجال يتجادلون كطقس جماعي لتبادل العزاء في حياة خاوية، أطفال يجرون وراء بعضهم صاخبين، فرحين بقدرتهم على إثارة الرعب من فوضى كامنة، فتيات جميلات تُسر الناظرين، وأقل مما يلزم لمحاربة القبح. الملابس مهرتلة، والأعين صامتة.
يتقدم القضاة الثلاثة للمنصة إستجابةً لصوت البوق، وصفير الرياح الأعلى صوتاً، ليبدأ تلاوة النص الحاكم "الفجر ليل جديد.. الصمت صوت القبور.. الخوف ظل السائرين.. الرحمه صدى الصراخ.. من يُرد الصراخ، فهنا كهفه.. المحكمة لا تؤمن بالحدود، الله أعلانا، والقبور أسفلنا". ثم ينادى على من فى القفص الحديدى، ثلاثة رجال، بميكروفون فى سماعة أذنيه، ليتمثلوا أمامه وسط الساحة واحداً تلو الآخر، كنقظة ارتكاز فى دائرة ملحمية يدور حولها الموت فى وسامة استقراطية صامتة !.

الرجل الأول: رجل قصير فى منتصف الأربعينات من العمر، أصلع جزئياً، نظارته عملاقة، يرتدى ما أطلق عليه "الشرز".. يقول القاضى..
-إسمك عبداللطيف السيد عثمان؟.
-يغير نظرتة من الأرض إلى القاضى ليقول: صحيح سيادتك.
-تمام.. ليه طلبت تكون فى المحكمة؟
- فى سكون عكس حركة عينيه كالبندول، يقول: نفسى مش قابلة تكون فى مكان غير فى حضن الموت.. حبيته !.
-سأل القاضى باندهاش: حبيت الموت ؟! ازاى ؟!.
-نطفة من ابتسامة رُسمت على جبينه، مع بداية الاستجابة الحركية لحديثه وهو يقول: آه حبيته! كان أقرب حاجة ليا.. زى الصديق، دايماً جنبى.. كان جنبى لما كنت ضايع فى شبابى، وبتغذى على أوكسوجين مستحقهوش..دخلت المستشفى نتيجة إدمان الهيروين وكنت هموت فيها لولا ستر ربنا!.. ودى كانت أجمل لحظات حبيت فيها الموت!.. بعد ما اتعالجت، رحت مستشفى نفسية، فيها اتعرفت على "نادية"، أجمل واحدة فى حياتى! واللى بقت مراتى بعد كده. حبيتها، أو عبدتها!.. لكن صديقى -الموت- خدها منى نتيجة جرعة زايدة من الهيروين!.. مكنتش عارف ساعتها أعيط ولا أعمل ايه!.. الصدمات شلل المشاعر!.. ومع ذلك حبها منقصش جوايا أبداً!.. لكن صاحبى أنقذ أى طفل يجيلى من انه يتربى على ايد مدمنة!.. كان الموت صاحبى برضو لما خد منى أغلى إنسان! أبويا! وشوش لى الموت وقالى "خدت منك الغالى عشان تاخد بالك من الأغلى"!.. مسبتش أمى من بعد فراق أبويا، كنت خدام ليها ومبسوط، لكن هى كانت بتحب أبويا أكتر. محدش بيعيش لوحده، الوحده مش ان ميكونش معاك حد، الوحده إنك كمان متكونش مع نفسك!.. مقدرش أقول انى كنت عايش فى وحده، لكن مع نفسى! بتعوضلى حاجات كتير فقدتها، بضحك وبعيط وببتسم وبصرخ معاها، لكن الحاجة الوحيدة اللى معرفتش نفسى تعوضهالى، هى الحضن!.. الحضن اللى كان من أمى، أبويا، أو مراتى!.. وهما دلوقت فى حضن الموت!.. عشان كده مليش مكان غير فى حضن الموت.. اللى حبيته.

الرجل الثانى: رجل فى أواخر الخمسينات، يتخلل شعره بعض الشعيرات البيضاء، وجهه طمسته التجاعيد، ويرتدى قميصاً كلاسيكياً وبنطلون قد سقاه الترزى مُراً. القاضى منادياً..
-إسمك عامر أحمد عبد الله؟.
-وهو فى منتصف الساحة ينظر حوله على من خلف الأسلاك الشائكة الذين ينتظرون الحياه خلف السماء، ثم يرد: أيوة يا فندم.
-تمام.. ليه طلبت تكون فى المحكمة؟
-أخذ نفساً يدل على قلقه وهو ينظر للقاضى، ويقول: عشان قلت "اللى بيحب الوطن، يبقى جزمة" !.
-القاضى متعجباً: وايه اللى خلاهم جزم! دوول شرفاء!. وعايز تموت ليه؟!
-أخذ نفساً عميقاً و نبرة صوته تضفى غضباً ساكناً فى نفسه، ليقول: هقول لسعادتك.. الجزمة دى هى اللى بروح بيها المصنع كل يوم عشان تعمل حاجة الحكومة بتقول عليها الانتاج.. الجزمة دى هى اللى ضربت بيها و وقعتها على أدمغة ولادى عشان يتربوا، و طلعت مهندس زى مصطفى ودكتور زى أحمد.. الجزمة دى هى اللى حطيتها فى بوقى ومشيت جنب الحيط عشان الإستقرار.. الجزمة دى هى اللى شالتنى عشان متحوجش للمستشفيات العامة.. الجزمة دى هى اللى لا علاوات ولا مكافئات عرفت تجددها، الخياط هو اللى كان بيحيها وتعيش معايا صيف وشتا.. الجزمة دى هى اللى خلتنى راجل قدام نفسى وقدام عيلتى.. من غيرها كنت همشى عريان!.. الجزمة دى هى اللى كل يوم بتفكرنى بحالى.. شايلة همومى.. مبقاش فيها خرم متخيطش.. ولا كعب تتسند عليه!.. و فى وطنى سعادتك شايف الجزمة دى "مشاوراً تجاهها".. هى نفسى !. حضرتك متخيل راجل فى جسمه تمن تسع سكاكين !؟ حضرتك ُمتخيل انه يقتل نفسه و لا يخلع سكينة سكينة؟!.

 الرجل الثالث: شاب فى أواخر العشرينات، ملامحة جادة وصارمة كالصخر، ويرسم نوع من الخوف بفرع طوله، و نحافته الشديدة.
-اسمك عمر حسن المرشدى؟.
-بنظرة ثابتة: أيوه.
-طلبت ليه تكون فى المحكمة؟.
-بايد نصف مرتعشة وعين زائغة: بسابق الموت، وهنا آخر محطة.
"لم يُعلق القاضى كأنه سلّم أن اليوم هو اليوم الأعجب"
-بدأ عليه استجماع أفكاره كى يبوح بها دفعةً واحدة: أنا ابن حسن المرشدى رجل الأعمال، عايش لوحدى بعد مع أهلى ماتوا.. دُقت لذّة كل حاجة فى الحياة ممكن تتخيلها، مخدرات، و دعارة للجنسين، سفر فى كل بلاد العالم، حتى الغابات روحتها، أكل، شرب، كل حاجة!.. لكن لذة تانية عبقرية لما شفت واحد بيموت بخبطة عربية!.. لحظة طلوع الروح وكأنه بيحضّر الموت وبيتكلم معاه بعينيه الواسعة!.. بصيتله وعرفت إجابة "الروح فين؟".. الروح فى إيد الموت!.. عايز تشوفها وتحسها، اتفرج على واحد بيتألم فى الموت!.  لذة أحلى من كل البنات اللى نمت معاهم!.  قتلت، ودبحت ناس أكتر مما تتخيل! ببعت المساعد بتاعى لأحياء شعبية يعرض عليهم يجيبو لى واحد أو واحدة، وميبلغوش عن اختفائهم، مقابل نص مليون جنيه!.. أول واحد قتلته كان بخمس طلقات فى رجليه الاتنين لحد ما ينزف، عشان أقول للموت: "بايدى أسلمهولك بطلقة فى الراس، وبايدى أسلمهولك واحدة واحدة"!.. بايدى أغلى وأعظم شىء فى الكون، الروح!.. و إغتصبت بنات وستات وعواجيز ودبحتهم وهما فى الذروة، و اللى خنقته بحبل، واللى خليته يبلع زيت مغلى!. دفنت كل الناس فى بدروم فى الأربع قصور.. أجمل ما فى طلوع الروح، إنك بتستدعى أقوى مخلوق فى العالم الأرضى والسفلى والعلوى، عشان يستلم هديتك بنفسه!.. قتلت كل أنواع البشر، حتى الأغنية، لكن بتمن أعلى!.. الناس هتمشى على أسفلت من جثث البشر!.. وجه الوقت أواجهه هنا، أشوف روحى وهى بتطلع شكلها ايه! والرعشة اللى فيها بيسلم الجسم على الروح، وقفلة العين كأنها ستارة شافت المسرح وفهمت الحكاية!.. هنا الحلبة بينى وبين الموت.. هنا آخر المشوار!.

جاء دور القاضى لحسم الأمر، وسط القابعين خلف الأسلاك الشائكة، و رجفة القلب كثائر يبحث عن حُريته، و استعداد الموت لاصطحاب المُختار الجديد لنهاية الدرب.. ليكون حكم القاضى هو: " فى اليوم المائة وسبعة وثمانين، و بعد سماع الثلاثة المُتقدمين للمحكمة، وبعد المشاورة، قررت المحكمة الحكم على المدعو عبداللطيف السيد عثمان".
"يتقدم الرجل الأول وفى عينيه دموع شوق تفتقد الحياه.. خلفه حارسى الأمن متوجهين لمنصة الاعدام.. ليعدم شنقاً".

بعد تنفيذ الحكم، يكرر القاضى التنبيه اليومى بما يلى: "عند كل باب منزل، رجل أمن يمنع القتل أو الانتحار، فاذا حدث، ُيعدم القاتل بأقصى أنواع القسوة، كالإعدام على الخوازيق أو بالحرق.. أما المُنتحر، فيُحكم على بقية عائلته بالموت شنقاً. انتهت المح..".  فجأة، قطع القاضى صوت صريخ الرجل الثانى الممتزج بطعنات سكين الرجل الثالث، وهو يقول: " هنا آخر المشوار !! هنا آخر المشوار !! ".

غداً، ميعاد آخر لمحكمة الرحمه.. والجميع يبحث عن لحظة وقوفه فى الجانب الأيسر من المنصة!.. جانب القفص الحديدى الذى يحمل فى جوفه ثلاثة أشخاص، الأوفر حظاً سيكون الفائز. لينال الآخران شرف خدمة العاصمة الأم للنظام !. هو الموت مُتمثلاً فى شخص يبحث عن عملة ذهبية أسفل جبل صخرى هائل، وأنت العُملة! هو حين يصبح الدم الغاز الذى يُشعل ترس ماكينة النظام! هو حين يكون العقل والروح وجهان للنرد بين يدىّ الحاكم! هو حيث صنع المزيد من المُتقدمين.. لطلب الموت!.

رحلتى فى المسجد !

أستعد الآن للنزول.. وما أحلى الخروج باصطحاب هدف، وهدفى اليوم هو المسجد!. سأترك المنزل لا لـ"تغيير عتبة" أو صحبة الأصدقاء على ناصية الشارع هروباً من تعنت الوالد على عدم تعدّى نفس العتبة! أو القانون الدراسى فى الامتحانات الذى يُحتّم ممارسة بعض الصلوات فى المسجد و الاعتكاف اذا لزم الأمر، ولكن كما تعلم "الوقت أضيق من الهوت شورت" ! والدعوات رجاءً من الله غزو الكائنات الفضائية لكوكب الأرض و تأجيل الإمتحانات لأجل غير مُسمى. ولكن هدفى اليوم، هو الكشف عن هوية المُصلين.

أثناء نزولى دار حديث بينى وبين والدى، ليقول..
-رايح فين؟.. قالها وهو يتابع النشرة الاخبارية.
-رايح أصلى فى المسجد.
ترك متابعة النشرة، وخصوصاً فى النشرة الرياضية، ولا يترك الرياضة الا وكان الأمر عظيم، ثم نظر لى نظرة ثاقبة توحى بأننى على وشك تسليم نفسى للقاعدة، وأنا أنظر اليه منتظراً قوله، فضحك، ضحك حتى احمر وجهه، ثم قال..
-تعرف ان انا وامك كنا برضو بنضحك على ابهاتنا و نقولهم اننا رايحين درس لمولانا الشيخ فى المسجد، وكنا بنتقابل من وراهم ونروح نضرب حلابسة ؟!.. آآآهخ كنت صايع زمان ! فامتصعش عليا !.
-بهدوء، تركت المفاتيح من يدى، و قلت له: لا يا بابا حضرتك فهمت غلط، انا نازل فعلاً أصلى فى المسجد عشان أنا محتاج أصلى فى المسجد !.
-نظر لى نفس النظرة الثاقبة مع الحركة الجاسوسية البحتة، كلمس الذقن بيديك احتكاكاً ورفع الحاجب الأيسر، عسى تنيره الحركة فيما لا يعلمه، ثم قال بهدوء: متصعش عليا قلتلك، يعنى هترجع هنا بعد الصلاة؟؟
-أيوه يا حج والله، هتلاقينى هنا بعد الصلاة ما تخلص.
-تمام، ولو صعت عليا، هشيل البلايستاشن من هنا ! انت عارف ان ابوك ممكن يتقلب فى فلوس.. فى الكلسون، لكن محدش يصيع عليه !.
-ماشى يا بابا.. بعد اذنك بقى عشان ألحق السنة.. سلام.

خرجت من البيت، وهو ينظر لى النظرة الثاقبة متأثراً بمسلسل "بريكنج باد" حاملاً أن أعود بعد الإنتهاء من الصلاة.. المسجد يسكن الناصية الثانية من الشارع، توجهت اليه وأنا أنظر لأصحاب المحلات الذين ينتظرون أذان الاقامة، هناك عم أحمد صاحب السوبر ماركت الذى يتابع التلفاز فى حماس شديد يساعده كيس شيبسى طماطم على الاستمتاع، بجانبه الأستاذ فخرى صاحب أدوات السباكة يسبح بحمد الله فى المحل، و آخرون يقبعون بداخل محلاتهم لا يفقهون أن هذه الدقائق لن تجعل محلاتهم شركة مايكروسوفت !. تقدمت لنزع حذائى وقد تكوّمت عدة أحذية وشباشب عند الباب، وآخرون يحرصون على دسها فى مكان آمن بعيد عن امكانية "حرامى الجزم" سرقتها. تكوّمت آخر صف لأشاهد كل ما يحدث، قطع ذهنى رجل يُبعد جميع الأحذية كى يضع حذائه الملىء بالطين فوق حذائى، فذهبت اليه، وقلت..
-بعد اذن حضرتك، ممكن تحط الجزمة بتاعة حضرتك فى مكان تانى، بس عشان جزمتى و الطين وكده.
-نظر لى نظرة اشمئزاز، ثم قال: هو انت اللى هتعلمنى النضافة !؟
-تمالكت أعصابى، وأظن أن رجلاً متزوجاً فى أوائل الثلاثينات ، يحتاج أنفه وشفتيه فى بعض المواقف، فقلت: لا العفو حضرتك، بس بعد إذنك عشان فيه أماكن تانية فاضية ممكن نحط فيها الجزم غير فوق جزمتى.
لم يرد علىّ، فقط نظر لى وتمتم بكلام أظنه شتائم، لكن لم أسمعه، المهم أنه فعل ما كنت أريد. مكثت حيث كنت، وأثناء رجوعى، أخذ يتهامس بعض كبار السن الجالسين على الكراسى البلاستيكية فى الأحاديث السياسية، وهم يحللون المؤامرة الماسونية فى سوريا، وتأثيرها على انخفاض بيع اللب السورى، وكيف أن ارتفاع سعر البنزين سوف يُخلصنا من مشكلة بزر البطيخ !. كى يؤذن الموذن للصلاة.

قبل الانتهاء من رفع الأذان، استعد المصلون للصلاة واكمال الصفوف الأمامية، وأنا أنتظر فى الوراء، مهمتى هى لقف الملاحظات وتعيينها اليوم، سامحنى يا الله!. يبدأ الامام فى النظر للصف الأول، ليطلب اغلاق الموبيل، وأيضاً "إستقيموا يرحمكم الله". كأن هذه الجملة صافرة حكم لبداية مباراة لكرة القدم، والإصبع الصغير هو الكرة !. يلتفت المصلون يميناً ويساراً وهم يلوّحون للمتأخر أن يسرع فى خطواته ويجذبون آخر من بنطاله أو جلبابه حتى يكتمل الصف، ثم يُغرس اصبعه الأصغر فى مثله للذى بجانبه، حتى أنه يتوتر عندما لا يشعر بصباعه الصغير، فلا يهدأ حتى يلصق اصبعه فى اصبع صديقه المُصلى !. ثم نادانى أحدهم، ليقول :" مش هتصلى يابنى؟؟ انت قاعد عندك بتعمل ايه؟؟"
-وقفت وجعلت من نفسى رجلاً يستعد للوضوء، فقلت :" المحشى بقى يا حج مش بيسيب الواحد فى حاله " !. قبل أن يُكبّر الإمام، نظر لى الرجل نظرة ثاقبة ! هل يعرف أبى؟!.

توجهت للحمامات، لا للوضوء، ولكن لتفعيل بعض المياه كى لا يقلق هذا الرجل على جزمته !. ثم دخل أحدهم، رجل فى الأربعينات،  ليترك جميع الأحواض السبعة كى يكون بجانبى !.. توضأت رغماً، وأثناء الوضوء، جاءه هاتف يحمل شعائر بصوت الشيخ الشعراوى، كى يرد ويقول: "ألو؟.. إزك آباشا؟؟.. آه والله فى نعمة الحمد لله.. هو عبمنعم مجاش الشقة؟؟.. طب تمام، هخلص أنا صلاه وأجيلك على طوول باشا.. ماشى يا باشا سلام سلام مع الف سلامة". أغلق الهاتف كى يصب الحديث لى..
-والله يا باشا من غير مقاطعة للوضوء يعنى، الناس مبقاش عندها صبر ! و لا حتى العيال بقى عندها ضمير ! الولا الصبى أبعته "يقذف المياه من فمه" عشان يشوف الكهربا بتاعة شقة جديدة، ويقولى رحت وملقتش الراجل، والراجل متسكع هناك من الصبح ! طب أعمل ايه أنا يا ريس؟! قلت أروح أنا هقضى المصلحة وأريّح الزبون وبعدها أشوف حكاية الولا ده ! ولا انت مش معايا؟!
-كنت قد فرغت من الوضوء وهو على وشك الانتهاء، فوضعت جملة تقف أمام مجرى مائى من الحديث الذى لن ينتهى الا بشنق الصغير، أو سباب الرجل صاحب الشقة، فقلت: ربنا معاك يا باشا.
-رد سريعاً وقام يجلب محفظته من خلفه كى يعرض علىّ الكارنيه الخاص به، ويقول: الله يكرمك يا باشا، وده الكارت بتاعى لو احتجتنى انا تحت امرك.
-ماشى يا "قرأت الاسم" اسطى حسن، بس نلحق الصلاه الأول.

اتخذت مكانى فى الصف الخلفى، و الرجل دون ترتيب ملابسه، يقف فى الصف يتساقط منه بعض قطرات المياه. يظهر صوتان مختلفى الوضوح، الصوت الأول هو صوت من يدعُ أثناء السجود ! يدعو كأنه يُغرق رأسه فى برميل من الماء ثم تقذفه خارجاً، يأخذ نفساً ويدعو ! حتى أنه ليكون مستفزاً وأنا فى الصف الخلفى !. و الصوت الآخر هو صوت نغمات الموبيل، كى يصبح المسجد بديلاً شرعياً عن الميكروباصات فى معرفة النغمات الجديدة. ثم انتهت الصلاه.

أخذ يقوم البعض بأداء السُنة، وآخر يحاول رسم خريطة المسجد بعينية بحثاً عن الثغرة التى يهرول منها للخروج !.. و الشخص الذى يستحق تصويب قذائف الهاون عليه، هو من يقوم ياغلاق الصف كاملاً بحيث لا يترك أى مساحة لمرور من أمامه عند الافراغ من الصلاه، بل هو مُتأخر أيضاً !. أذهب لجلب حذائى استعداداً للخروج، وللشحاذين القابعين على باب المسجد. أُعطى أحدهم جنيهاً، ثم أذهب للبيت، ليقابلنى والدى وهو فى نفس موضعه يتابع تحليل أخبار العالم بعيون ثاقبة مصدر خبرتها من مسلسل رأفت الهجان، وكونان. وهو يكرر تعليقاً واحداً: " العيب فى السيستم يا بشر.. العيب فى الدنيا !! ".  فتذكرت أن العبارة الصحيحة والمقصود اعمالها هى: " استقيموا فى حياتكم يرحمكم الله " !.


ساعاتى الأولى على كوكب الأرض !

حركة اهتزازية تحاول وضع بصمتها على المركبة الفضائية.. تهتز بعنف.. تهتز أكثر عنفاً لتدفعنى للخارج، بمساعدة بعض الأصابع الغليظة، حتى أغدو إلى حياة و زمن آخر، يُنهيه أحد ما، بمنتهى الروتينية، بقطع شريان الحياة بينى و بين المركبة كأمل أخير!.

يستقبلنى الجمهور، المُنتظر، ووالدى صاحب الأسطوانة الدائرية أسفل صدره، و الجزيرة النائية التى تُغطى رأسه، مصوّبين هواتفهم المحمولة تجاهى، لن أقوم بالقاء الخطبة الجمهورية اليوم على كل حال !.. ويصنعون من وجوههم طلاسم تعبر عن فرحتهم، عدا ضيق وجه "عمو فخرى و طنط سعاد" لعلمهم أننى فتى !.

ها هى المركبة الفضائية التى دفعتنى عن طيب خاطر إلى المجهول !.. تبدو مُنهمكة كأنها صُدمت باحدى الصخور الجبلية المتناثرة فى الفضاء قبل وصولها لكوكب الأرض !.. أو أننى فعلت ما ليس علىّ فعله ! حتى أتصوّر أننى هزمتها فى مباراة للملاكمة فى الجولة التاسعة، ولم أتلقّ ضربة واحدة !.

بين ذراعيها، تضع رأسى تجاه ثديها، ليعتصرها فمى، بكل تلقائية، حتى أفرغ، ومن ثمّ أطلب المزيد !.. لكن معدتى المتناهية الصغر لم تُسعفنى فى مقدار ما وددته !.. فلقد أحببت هذا السائل.. المُخدّر !.

أغدو فى لفافة زرقاء مُحكمة الجوانب، منعاً "للفلفصة"! ويعترينى الخوف من صاحب الأسنان الصفراء، كأن يكون مخموراً ويتجرعنى دفعةً واحدة ليظفر ببقاياى فى هواء لا توجد فيه ذرة أخرى تستوعب التلوث ! التلوث الذى يُضفى على رئتى المنكمشتين، انكماشاً !.

يتحوّل عنى صاحب الأسنان الصفراء، لأشاهد السفينة الأم تعتدل قليلاً وهى تتجرع ما يبدو عليه أنه يورانيوم، لكن لماذا يطلقون عليه "المغات"؟
لماذا فى الغالب تكون، مؤخرتى الوردية، محور حديث مضحك؟
من هذه السيدة صاحبة الصوت المدوى الصادر من حركة عضلات لسانها مع الصراخ فى آن واحد؟
طقس جنائزى سعيد بشىء ما !
ولماذا يدور حولى بعض الصغار مرددين بعض التعويذات بتلك الديناميكية؟

أتحوّل ليد شيخ يعتبره الأهالى، نبياً مغموراً، يُقبّلونها كلما شاهدوه !.. أو كقطعة حلوى فى فم هؤلاء الوجوه البهلوانية، يودّ الجميع لو يتذوّق طعمها !.. يشبهن السفينة الأم كثيراً، غير أنهن بحالة جيدة.. يُطبعن قُبلاتهن اللطيفة، و أتنقل بين أحضانهن الدافئة بأثدائهن الناعمة !.

ما هذه الخدمة الفندقية الرائعة؟!.
يحملنى الجميع فى سعادة غامرة!
الطلبات مُجابة، فقط أصرخ!
قُبلات لا تنقطع!
نهر من لبن تملكه وحدك، و يملأ جوفك أغلب الأوقات!
التنقل بين أحضان حسناوات المجتمع !
يمكنك تصور كم هو ظريف أن يبلل المرء ملابسه !
لماذا لا يحصل الجميع على مثل هذه الخدمة الرائعة؟!
كيف يعيشون حياتهم بغير هذا التودد؟!

فليكذب علىّ أحدكم ويقول لى إن الوضع سيستمر للأبد !.