الخميس، 26 فبراير 2015

محكمة الرحمة



تُحيط المحكمة الأسلاك الشائكة الضخمة المُحصنة برجال الأمن أصحاب الأسلحة المتطورة، ترسو فى الهواء الحر الذى يلمس عبودية من يتكوّمون خلف الأسلاك منتظرين بداية الحدث!. نساء تسحب أولادها ورائها كمن يجر خيبة مؤجلة، ورجال يتجادلون كطقس جماعي لتبادل العزاء في حياة خاوية، أطفال يجرون وراء بعضهم صاخبين، فرحين بقدرتهم على إثارة الرعب من فوضى كامنة، فتيات جميلات تُسر الناظرين، وأقل مما يلزم لمحاربة القبح. الملابس مهرتلة، والأعين صامتة.
يتقدم القضاة الثلاثة للمنصة إستجابةً لصوت البوق، وصفير الرياح الأعلى صوتاً، ليبدأ تلاوة النص الحاكم "الفجر ليل جديد.. الصمت صوت القبور.. الخوف ظل السائرين.. الرحمه صدى الصراخ.. من يُرد الصراخ، فهنا كهفه.. المحكمة لا تؤمن بالحدود، الله أعلانا، والقبور أسفلنا". ثم ينادى على من فى القفص الحديدى، ثلاثة رجال، بميكروفون فى سماعة أذنيه، ليتمثلوا أمامه وسط الساحة واحداً تلو الآخر، كنقظة ارتكاز فى دائرة ملحمية يدور حولها الموت فى وسامة استقراطية صامتة !.

الرجل الأول: رجل قصير فى منتصف الأربعينات من العمر، أصلع جزئياً، نظارته عملاقة، يرتدى ما أطلق عليه "الشرز".. يقول القاضى..
-إسمك عبداللطيف السيد عثمان؟.
-يغير نظرتة من الأرض إلى القاضى ليقول: صحيح سيادتك.
-تمام.. ليه طلبت تكون فى المحكمة؟
- فى سكون عكس حركة عينيه كالبندول، يقول: نفسى مش قابلة تكون فى مكان غير فى حضن الموت.. حبيته !.
-سأل القاضى باندهاش: حبيت الموت ؟! ازاى ؟!.
-نطفة من ابتسامة رُسمت على جبينه، مع بداية الاستجابة الحركية لحديثه وهو يقول: آه حبيته! كان أقرب حاجة ليا.. زى الصديق، دايماً جنبى.. كان جنبى لما كنت ضايع فى شبابى، وبتغذى على أوكسوجين مستحقهوش..دخلت المستشفى نتيجة إدمان الهيروين وكنت هموت فيها لولا ستر ربنا!.. ودى كانت أجمل لحظات حبيت فيها الموت!.. بعد ما اتعالجت، رحت مستشفى نفسية، فيها اتعرفت على "نادية"، أجمل واحدة فى حياتى! واللى بقت مراتى بعد كده. حبيتها، أو عبدتها!.. لكن صديقى -الموت- خدها منى نتيجة جرعة زايدة من الهيروين!.. مكنتش عارف ساعتها أعيط ولا أعمل ايه!.. الصدمات شلل المشاعر!.. ومع ذلك حبها منقصش جوايا أبداً!.. لكن صاحبى أنقذ أى طفل يجيلى من انه يتربى على ايد مدمنة!.. كان الموت صاحبى برضو لما خد منى أغلى إنسان! أبويا! وشوش لى الموت وقالى "خدت منك الغالى عشان تاخد بالك من الأغلى"!.. مسبتش أمى من بعد فراق أبويا، كنت خدام ليها ومبسوط، لكن هى كانت بتحب أبويا أكتر. محدش بيعيش لوحده، الوحده مش ان ميكونش معاك حد، الوحده إنك كمان متكونش مع نفسك!.. مقدرش أقول انى كنت عايش فى وحده، لكن مع نفسى! بتعوضلى حاجات كتير فقدتها، بضحك وبعيط وببتسم وبصرخ معاها، لكن الحاجة الوحيدة اللى معرفتش نفسى تعوضهالى، هى الحضن!.. الحضن اللى كان من أمى، أبويا، أو مراتى!.. وهما دلوقت فى حضن الموت!.. عشان كده مليش مكان غير فى حضن الموت.. اللى حبيته.

الرجل الثانى: رجل فى أواخر الخمسينات، يتخلل شعره بعض الشعيرات البيضاء، وجهه طمسته التجاعيد، ويرتدى قميصاً كلاسيكياً وبنطلون قد سقاه الترزى مُراً. القاضى منادياً..
-إسمك عامر أحمد عبد الله؟.
-وهو فى منتصف الساحة ينظر حوله على من خلف الأسلاك الشائكة الذين ينتظرون الحياه خلف السماء، ثم يرد: أيوة يا فندم.
-تمام.. ليه طلبت تكون فى المحكمة؟
-أخذ نفساً يدل على قلقه وهو ينظر للقاضى، ويقول: عشان قلت "اللى بيحب الوطن، يبقى جزمة" !.
-القاضى متعجباً: وايه اللى خلاهم جزم! دوول شرفاء!. وعايز تموت ليه؟!
-أخذ نفساً عميقاً و نبرة صوته تضفى غضباً ساكناً فى نفسه، ليقول: هقول لسعادتك.. الجزمة دى هى اللى بروح بيها المصنع كل يوم عشان تعمل حاجة الحكومة بتقول عليها الانتاج.. الجزمة دى هى اللى ضربت بيها و وقعتها على أدمغة ولادى عشان يتربوا، و طلعت مهندس زى مصطفى ودكتور زى أحمد.. الجزمة دى هى اللى حطيتها فى بوقى ومشيت جنب الحيط عشان الإستقرار.. الجزمة دى هى اللى شالتنى عشان متحوجش للمستشفيات العامة.. الجزمة دى هى اللى لا علاوات ولا مكافئات عرفت تجددها، الخياط هو اللى كان بيحيها وتعيش معايا صيف وشتا.. الجزمة دى هى اللى خلتنى راجل قدام نفسى وقدام عيلتى.. من غيرها كنت همشى عريان!.. الجزمة دى هى اللى كل يوم بتفكرنى بحالى.. شايلة همومى.. مبقاش فيها خرم متخيطش.. ولا كعب تتسند عليه!.. و فى وطنى سعادتك شايف الجزمة دى "مشاوراً تجاهها".. هى نفسى !. حضرتك متخيل راجل فى جسمه تمن تسع سكاكين !؟ حضرتك ُمتخيل انه يقتل نفسه و لا يخلع سكينة سكينة؟!.

 الرجل الثالث: شاب فى أواخر العشرينات، ملامحة جادة وصارمة كالصخر، ويرسم نوع من الخوف بفرع طوله، و نحافته الشديدة.
-اسمك عمر حسن المرشدى؟.
-بنظرة ثابتة: أيوه.
-طلبت ليه تكون فى المحكمة؟.
-بايد نصف مرتعشة وعين زائغة: بسابق الموت، وهنا آخر محطة.
"لم يُعلق القاضى كأنه سلّم أن اليوم هو اليوم الأعجب"
-بدأ عليه استجماع أفكاره كى يبوح بها دفعةً واحدة: أنا ابن حسن المرشدى رجل الأعمال، عايش لوحدى بعد مع أهلى ماتوا.. دُقت لذّة كل حاجة فى الحياة ممكن تتخيلها، مخدرات، و دعارة للجنسين، سفر فى كل بلاد العالم، حتى الغابات روحتها، أكل، شرب، كل حاجة!.. لكن لذة تانية عبقرية لما شفت واحد بيموت بخبطة عربية!.. لحظة طلوع الروح وكأنه بيحضّر الموت وبيتكلم معاه بعينيه الواسعة!.. بصيتله وعرفت إجابة "الروح فين؟".. الروح فى إيد الموت!.. عايز تشوفها وتحسها، اتفرج على واحد بيتألم فى الموت!.  لذة أحلى من كل البنات اللى نمت معاهم!.  قتلت، ودبحت ناس أكتر مما تتخيل! ببعت المساعد بتاعى لأحياء شعبية يعرض عليهم يجيبو لى واحد أو واحدة، وميبلغوش عن اختفائهم، مقابل نص مليون جنيه!.. أول واحد قتلته كان بخمس طلقات فى رجليه الاتنين لحد ما ينزف، عشان أقول للموت: "بايدى أسلمهولك بطلقة فى الراس، وبايدى أسلمهولك واحدة واحدة"!.. بايدى أغلى وأعظم شىء فى الكون، الروح!.. و إغتصبت بنات وستات وعواجيز ودبحتهم وهما فى الذروة، و اللى خنقته بحبل، واللى خليته يبلع زيت مغلى!. دفنت كل الناس فى بدروم فى الأربع قصور.. أجمل ما فى طلوع الروح، إنك بتستدعى أقوى مخلوق فى العالم الأرضى والسفلى والعلوى، عشان يستلم هديتك بنفسه!.. قتلت كل أنواع البشر، حتى الأغنية، لكن بتمن أعلى!.. الناس هتمشى على أسفلت من جثث البشر!.. وجه الوقت أواجهه هنا، أشوف روحى وهى بتطلع شكلها ايه! والرعشة اللى فيها بيسلم الجسم على الروح، وقفلة العين كأنها ستارة شافت المسرح وفهمت الحكاية!.. هنا الحلبة بينى وبين الموت.. هنا آخر المشوار!.

جاء دور القاضى لحسم الأمر، وسط القابعين خلف الأسلاك الشائكة، و رجفة القلب كثائر يبحث عن حُريته، و استعداد الموت لاصطحاب المُختار الجديد لنهاية الدرب.. ليكون حكم القاضى هو: " فى اليوم المائة وسبعة وثمانين، و بعد سماع الثلاثة المُتقدمين للمحكمة، وبعد المشاورة، قررت المحكمة الحكم على المدعو عبداللطيف السيد عثمان".
"يتقدم الرجل الأول وفى عينيه دموع شوق تفتقد الحياه.. خلفه حارسى الأمن متوجهين لمنصة الاعدام.. ليعدم شنقاً".

بعد تنفيذ الحكم، يكرر القاضى التنبيه اليومى بما يلى: "عند كل باب منزل، رجل أمن يمنع القتل أو الانتحار، فاذا حدث، ُيعدم القاتل بأقصى أنواع القسوة، كالإعدام على الخوازيق أو بالحرق.. أما المُنتحر، فيُحكم على بقية عائلته بالموت شنقاً. انتهت المح..".  فجأة، قطع القاضى صوت صريخ الرجل الثانى الممتزج بطعنات سكين الرجل الثالث، وهو يقول: " هنا آخر المشوار !! هنا آخر المشوار !! ".

غداً، ميعاد آخر لمحكمة الرحمه.. والجميع يبحث عن لحظة وقوفه فى الجانب الأيسر من المنصة!.. جانب القفص الحديدى الذى يحمل فى جوفه ثلاثة أشخاص، الأوفر حظاً سيكون الفائز. لينال الآخران شرف خدمة العاصمة الأم للنظام !. هو الموت مُتمثلاً فى شخص يبحث عن عملة ذهبية أسفل جبل صخرى هائل، وأنت العُملة! هو حين يصبح الدم الغاز الذى يُشعل ترس ماكينة النظام! هو حين يكون العقل والروح وجهان للنرد بين يدىّ الحاكم! هو حيث صنع المزيد من المُتقدمين.. لطلب الموت!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق